رسوله صلى الله عليه وسلم ليثبته على التمسك بالقرآن، فلا تثنيه مواقف الكافرين عن أخذ القرآن جميعه، لأن أي إخلال في تطبيق القرآن كله إخلال بعبادة الله، وإخلال في تحقيق الحكمة من خلق السموات والأرض، ونزول عن الخلق الأعلى:
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ بأن تترك أن تلقيه إليهم وتبلغهم إياه أو تترك العمل به وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فتتحرج أن تتلوه عليهم وتدعوهم إليه مخافة أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أي هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ معنى كلامهم:
هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز لننفقه، والملائكة لنصدقه، ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه، وهذا يفيد أنهم كانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به، فهيج الله رسوله صلى الله عليه وسلم لأداء الرسالة، وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم، وفي ذلك درس لكل تارك لكتاب الله، أو لشئ منه؛ مخافة من أقوال الناس إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك إن ردوا وتهاونوا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي حفيظ فيجازيهم بحفظ ما يقولون، وهو فاعل ما شاءه بهم من جزاء، فتوكل عليه وكل أمرك إليه، وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح، وصدر منشرح، غير ملتفت إلى استكبارهم، ولا مبال بسفههم واستهزائهم،
وبعد أن بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يهيجه على عدم الالتفات لاقتراحاتهم، فند دعواهم، بأن يكون هذا القرآن مفترى من عند محمد عليه الصلاة والسلام- بأبي هو وأمي- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل يقولون اختلق هذا القرآن، ونسبه إلى الله كذبا قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ تحداهم أولا بعشر سور، ثم بسورة واحدة، كما يقول المتحدي في الخط لصاحبه مثلا: أكتب عشرة أسطر نحو ما أكتب، فإذا تبين له العجز عن ذلك قال: قد اقتصرت منك على سطر واحد مِثْلِهِ في الحسن والجزالة واللفظ والأسلوب والفصاحة والبلاغة والمعنى مُفْتَرَياتٍ لما قالوا افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك وليس من عند الله، أرخى معهم العنان وقال: هبوا أني اختلقته من عند نفسي، فأتوا أنتم أيضا بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم؛ فأنتم عرب فصحاء مثلي وَادْعُوا للمعاونة على ذلك مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه مفترى. وهكذا أقام الله عليهم الحجة بإعجاز هذا القرآن. وهي حجة قائمة متحدى بها إلى يوم القيامة، فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولا بعشر سور مثله، ولا بسورة مثله؛ قال ابن كثير: لأن كلام الرب لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شئ، تعالى وتقدس