مكة وما لم يوسّع عليهم، وكل مكذّب يأخذ عبرة من هذا الخطاب، ويمكن أن نحمل الآية على أن المخاطبين بها العرب، وواضح أن ما أعطى الله الأمم الأخرى والأجيال السابقة، كبني إسرائيل، والرومان، واليونانيين، والصينيين، والمصريين، لم يعطه العرب، وكل قوم يستطيعون الاعتبار بهذا الخطاب، والسؤال: هل يمكن أن نجعل
الخطاب للأجيال كلها بعد نزول القرآن؟ إننا إن حملنا الآية هذا الحمل فهذا يحتاج منا إلى إثبات أنه قد مرّت قرون قبل نزول القرآن مكّنت في الأرض ما لم تمكن به القرون اللاحقة على نزول القرآن حتى عصرنا، ونقول نحن نحتاج إلى إثبات بسبب أن النص القرآني يحتمل، والذي نقوله: إن من ينظر إلى مثل سدّ الصين العظيم، والأهرام، وآثار بعلبك، وشبكة المياه الجوفية الموجودة في بلاد الشام من عصر الرومان، وما يقال إن المناخ العالمي قد تغيّر، وأن الجفاف يزداد، وأن المناطق الصحراوية تمتد، وما يقال تاريخيا عن تمكين أقوام بأعيانهم في الأرض، أما التمكين الحالي ففي الغالب ليس تمكينا لأقوام بل لشعوب من مجموعة أقوام، أو لدول، أو لاتحادات، إن مثل هذه المعاني تجعلنا نقول باحتمال النص للفهم الأخير. والله أعلم.
ولنرجع إلى عرض آيات المجموعة الأولى فبعد أن وضّح الله إعراضهم عن الآيات، وتكذيبهم للقرآن، ووعظهم بما أصاب الأمم السابقة، عاد إلى تبيان طبيعتهم الجاحدة، فقال: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ القرطاس الورق، والكتاب المكتوب فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. أي: اجتمع لهم مع المعاينة اللمس لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أي: واضح وإنما يقولون ذلك تعنّتا، وعنادا للحق بعد ظهوره
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ. أي: وقالوا: هلا أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم ملك يعلمنا أنّه نبي وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ. أي لقضي أمر هلاكهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. أي ثمّ لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين، لأنّهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون، ومجئ (ثمّ) في هذا المقام يفيد أنّ عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر، لأنّ مفاجأة الشّدة أشد من نفس الشّدة
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً. أي: ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا (لأنّهم كانوا يقولون تارة لولا أنزل على محمد ملك، وتارة يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة) لَجَعَلْناهُ رَجُلًا. أي لأرسلناه في صورة رجل وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ. أي لخلّطنا وأشكلنا عليهم من أمره إذا كان، فيسلكون معه كسلوكهم معك يا محمد، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك،