قال الألوسي في تقديمه لسورة النور:(مدنية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم. وحكى أبو حيان الإجماع على مدنيتها ولم يستثن الكثير من آيها شيئا، وعن القرطبي أن آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الخ مكية، وهي اثنتان وستون آية، وقيل أربع وستون آية، ووجه اتصالها بسورة المؤمنين أنه سبحانه لما قال فيها وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني، وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنا، والاستئذان الذي إنما جعل من أجل النظر وأمر فيها بالإنكاح حفظا للفرج، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، ونهي عن إكراه الفتيات على الزنا.
وقال الطبرسي في ذلك: إنه تعالى لما ذكر فيما تقدم أنه لم يخلق الخلق للعبث بل للأمر والنهي ذكر جل وعلا هاهنا جملة من الأوامر والنواهي، ولعل الأول أولى. وجاء عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور» وعن حارثة بن مضرب رضي الله عنه قال: «كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور»).
وقال صاحب الظلال: (هذه سورة النور .. يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح؛ ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة.
وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية، تنير القلب، وتنير الحياة؛ ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح، وإشراق في القلوب، وشفافية في الضمائر ..
وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف، ومن آداب وأخلاق: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها، وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .. فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة؛ ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية ..
والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية. التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود. وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة، التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة. والهدف واحد في الشدة واللين.