متأثرين بموقفهم الجحودي كل التأثر، وإذا لوحظ أن الأعراب كانوا يقدرون أن النبي والمسلمين لن يعودوا سالمين من هذه الرحلة، وأن المنافقين كانوا يظنون أسوأ الظنون.
بدت لنا ناحية من نواحي خطورة هذا الفتح وبعد مداه. ولقد أثبتت الأحداث صدق إلهام النبي- صلّى الله عليه وسلم- فيما فعل، وأيده فيه القرآن، وأظهرت عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين منه. إذ قووا في عيون القبائل، وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار، وازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتا وشأنهم ضآلة، وإذ صار العرب يفدون على النبي- صلّى الله عليه وسلم- من أنحاء قاصية، وإذ تمكّن من خضد شوكة اليهود في خيبر وغيرها من قراهم المتناثرة على طريق الشام، وإذ صار يستطيع أن يبعث بسراياه إلى أنحاء قاصية كنجد واليمن والبلقاء، وإذ استطاع بعد سنتين أن يغزو مكة ويفتحها، وكان في ذلك النهاية الحاسمة، إذ جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا .. ونحن نعود فنؤكد أنه كان هناك- إلى جانب هذا كله- فتح آخر. فتح في النفوس والقلوب، تصوره بيعة الرضوان، التي رضي عنها الله وعن أصحابها ذلك الرضى الذي وصفه القرآن. ورسم لهم على ضوئه تلك الصورة الوضيئة الكريمة في نهاية السورة: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ .. الخ. فهذا فتح في تاريخ الدعوات، له حسابه، وله دلالته، وله آثاره بعد ذلك في التاريخ.
٢ - [تقديم ابن كثير لسورة الفتح]
قدّم ابن كثير لسورة الفتح بقوله: (نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام فيقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه- كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى- فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع، أنزل الله عزّ وجل هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحا، باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روى ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية، وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية؛ كنا مع