أي بعثناك وحال هذه الأمة أنهم يكفرون بالرحمن الذي هو البليغ الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شئ، فهم يكفرون بالرحمن ولا يقرون به، ويأنفون من وصف الله به كما أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوابسم الله الرحمن الرحيم، وقالوا ما ندري ما الرحمن الرحيم قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي هذا الذي تكفرون به أنا مؤمن به، معترف له مقر بالربوبية والألوهية هو ربي لا إله إلا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي في جميع أموري وَإِلَيْهِ مَتابِ أي وإليه أرجع وأنيب فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أي عن مقارها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ حتى تتصدع وتتزايل قطعا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتسمع وتجيب لكان هذا القرآن؛ لكونه غاية في التذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف، قال ابن كثير في تفسيرها: (أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك، لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون جاحدون له.» اه
ويحتمل أن يكون المعنى: ولو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى، وتنبيئهم لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه، وإنما حذف الجواب ليذهب الفكر أكثر من مذهب، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث كما بعث غيره من الرسل، وتلا هذا القرآن، وكان القرآن بهذه المثابة، فأي آية يطلب الكافرون ليؤمنوا.؟!
قال صاحب الظلال (ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض- إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ؟
إن طبيعة هذا القرآن ذاتها. طبيعته في دعوته وفي تعبيره. طبيعته في موضوعه وفي أدائه، طبيعته في حقيقته وفي تأثيره .. إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به، والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تاريخ الأمم والأجيال، وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد.