وبهذا عرض الأمر الثالث: فالأمر الثالث هو أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلق بالسجود لله، إلا أنه عرض الأمر بصيغة المبني للمجهول، وموقف الكافرين منه والرد عليه. وقد دل ذلك على أن من مهمات النذير الرئيسية أن يأمر خلق الله بالسجود، وأمام رفض الكافرين السجود للرحمن فإن الله يعرض لنا نموذجا لعباده المخلصين الذين يستأهلون البشارة، وكل ذلك يأتي قبل الأمر الرابع:
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار، قال النسفي: أي يمشون بسكينة ووقار وتواضع دون مرح واختيال وتكبر، فلا يضربون بأقدامهم، ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا. وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء. فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشي كأنما ينحط من صبب وكأنما الأرض تطوى له وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ أي السفهاء قالُوا سَلاماً أي سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإفك، ويمكن أن يكون المراد بالسلام التسلم أي تسلما منكم نتارككم ولا نجاهلكم، فأقيم السلام مقام التسلم. قال ابن كثير:(أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما) قال النسفي عن الآية: قيل نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك، فالإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعا ومروءة
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً أي في طاعته وعبادته. قال النسفي: وقالوا من قرأ شيئا من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجدا وقائما، وقيل هما الركعتان بعد المغرب، والركعتان بعد العشاء، والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي هلاكا لازما دائما، وصفهم بإحياء الليل ساجدين قائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون متضرعون إلى الله في صرف العذاب عنهم
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا أي لم يجاوزوا الحد في النفقة وَلَمْ يَقْتُرُوا أي لم يجاوزوا الحد في التضييق. قال ابن كثير: أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون