فضل الآخرة على الدنيا، وتؤثرون الآخرة عليها. نفهم من هذا أن من حكم نزول القرآن العظيم بآياته كلها، إثارة تفكير الإنسان. فمن لم يستثر القرآن تفكيره في أمر الدنيا والآخرة، فإنه لا يكون قد حقق الحكمة من هذا البيان الواضح في القرآن.
عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (سورة الأنعام) وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. (سورة النساء) انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه. فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ... رواه أبو داود والنسائي.
[المعنى الحرفي]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ... أي: عن مخالطتهم في الطعام والشراب، بجعل الطعام والشراب مشتركا بين اليتيم ووصيه، وأمثال ذلك. والجواب قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ: أي مداخلتهم على وجه الإصلاح خير لهم ولأموالهم وخير من مجانبتهم ويحتمل أن يكون المراد بالإصلاح عزل طعامهم وشرابهم على حدة. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ: أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم، لأنهم إخوانكم في الدين. قالت عائشة:«إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة حتى أخلط طعامه بطعامي، وشرابه بشرابي». وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ: لأموالهم. مِنَ الْمُصْلِحِ: لها. أي: يعلم من قصده ونيته الإفساد، أو الإصلاح، فيجازيه على حسب مداخلته، فاحذروه.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ: العنت هو المشقة، والحرج. أي: لو شاء الله لضيق عليكم، وأحرجكم. ولكنه وسع عليكم، وخفف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن. بل جوز الأكل منه للفقير بالمعروف، إما بشرط ضمان البدل، لمن أيسر، أو مجانا، كما سيأتي بيانه في سورة النساء. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ. أي: غالب. يقدر أن يعنت عباده ويحرجهم إن شاء ويعاقبهم إن خالفوا في الدنيا وفي الآخرة.