استقر السياق- كما رأينا- على تسجيل حال الأنبياء في الخضوع لله والسجود له والرهبة منه، وعيسى كان هذا دأبه، فكيف يزعمون أنه غير عبد لله، وهكذا من خلال عرض حال الأنبياء تستقر الأدلة على أن عيسى عبد الله، وهي القضية الرئيسية التي حكمت فيها سورة مريم حتى نهاية لمقطع الأول مما اختلف فيه الناس.
لقد عرض لنا المقطع الأول حال الأنبياء، ودعوتهم، وأخلاقهم التي من جملتها خضوعهم لله، وخشوعهم وسجودهم، فإذا استقر هذا يصل السياق إلى الحديث عما خلفهم به أقوامهم كما سنرى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا.
فلنلاحظ الآن ما يلي:
إن محور سورة مريم هو قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وقد قص الله علينا قصص عدد من هؤلاء النبيين في سورة مريم.
وبعد أن قص علينا قصتهم قال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ ...
وقال تعالى في سورة البقرة: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
وهذا القرآن أنزله الله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. ومن ثم تأتي سورة مريم لتقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ* ... وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ* فيا أيها الناس اقبلوا حكم القرآن، فإذا تذكرنا أن آية البقرة واردة في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كافة، فهذا يفيد أن على الخلق أن يحتكموا إلى كتاب الله في كل شئ، وذلك هو الدخول في الإسلام كافة، وقد حكمت السورة في أهم قضية مختلف فيها، وهي رسالة المسيح وعبوديته وبراءة أمه، فليتبع حكم الله في ذلك وليحذر من يرفض حكمه.
وقال تعالى في آية البقرة: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ كما حدث لأتباع عيسى دلّ ذلك على أن بولس ومدرسته باغية ظالمة إذ خالفت المؤمنين الحقيقيين من أتباع عيسى محرّفة لكتاب الله، وفي ذلك درس لهذه الأمة ألا تختلف في فهم الكتاب بغيا.