جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ* وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا. إن مجئ آية وَحَسِبُوا بعد الآية السابقة عليها يشعر أن هؤلاء اليهود كانوا يرتكبون ما يرتكبون مع ظنّهم ألا تقع فتنة، وبذلك وصلوا إلى حالة العمى عن الحق والصمم عن كلّ موعظة، فجاءتهم الفتنة بأن سلّط الله عليهم بخت نصّر فقهرهم وأخذهم أسارى إلى بابل في غاية الذّلّ والمهانة حتى رحمهم الله- عزّ وجل- فأنقذهم بعد ذلك وهو قوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولكنهم بعد ذلك عادوا إلى العمى والصّمم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فسلّط الله عليهم من سلّط وسيسلط إلى قيام السّاعة، هذا توجيه بعضهم للآية.
وإن أمّتنا فيما يبدو تقع أحيانا فيما وقعت فيه يهود، فيفعلون ما يفعلون حسبانا منهم أنهم لن يسلط عليهم أحد، ويستغرقون في الانحراف، حتى تأتيهم الضربة، وما أكثر ما أصبنا بضربات وما أكثر الغفلة والعمى والصّمم.
[نقل وتعليق]
بمناسبة قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قال صاحب الظلال: إنّ كلّ النّصوص القرآنية والنّبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم، مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله، ويتحاكم إلى شريعته مهما وجد فيه من طغيان الحكم، في بعض الأحيان، ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان، وهكذا نجد في قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم «أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر» فهو إمام ولا يكون
إماما حتى يعترف ابتداء بسلطان الله وبتحكيم شريعته، فالذي لا يحكّم شريعة الله لا يقال له «إمام» إنما يقول الله عنه سبحانه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله، فالمنكر الأكبر فيها والأهمّ، هو المنكر الكبير الأساسي الجذري، هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار، قبل الدّخول في المنكرات الجزئية، التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر، وفرع عنه وعرض له. إنه لا جدوى من ضياع الجهد جهد الخيرين الصالحين من الناس .. في مقاومة المنكرات الجزئية، الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول، منكر الجرأة على الله وادّعاء خصائص الألوهية، ورفض ألوهية الله يرفض شريعته للحياة، لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك