عالم بأعمالهم وسيوفيهم إياها، لا يظلمهم خيرا، ولا يزيدهم شرا، بل يجازي كل عامل بعمله. وكما من الله على المؤمنين برحمة رسوله صلى الله عليه وسلم لهم، ولينه لهم، يمن عليهم هنا برسالته، وأعظم المن في ذلك على العرب؛ ومجئ هذه الآية في هذا السياق، تذكير بالنعمة في مقامها، إذ المقام مقام إبعاد عن أخلاق الكافرين، وتصوراتهم، وأقوالهم التي يعني السير فيها كفرانا لنعمة الله ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عامة والعرب خاصة؛ بدليل ما بعده، وخص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بالبعثة إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله، ومجالسته، والانتفاع به، ولكن ما المراد بالجنس التي فسرنا بها كلمة الأنفس؟ هل المراد بها الجنس البشري، أو المراد بها الجنس العربي؟ فيكون المعنى: من جنسهم عربيا مثلهم أو المراد بقوله مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: من ولد إسماعيل لما أن أشرف العرب من ولده.
والمنة على الوجه الأول، أي: بكون الرسول من البشر من حيث إمكان الاقتداء به، وسهولة مخاطبته، ومراجعته، والتعرف على حاله. والمنة على الوجه الثاني: أي: في كونه عربيا بالنسبة للعرب، زيادة على ما مر من حيث كون اللسان واحدا فيسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه. والمنة على الوجه الثالث: زيادة على ما مر من حيث كونه من أشرف العرب، فيسهل ذلك على الأنفس المتابعة، والمنة لله على خلقه عامة ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى العرب أشد، وعلى بني إسماعيل وقريش أبلغ. فما أفظع كفر من يكفر من قريش، أو من العرب، أو من المؤمنين بعد كمال المنة، فيتابع الكافرين في أقوالهم، أو أفعالهم، أو أحوالهم، أو تصوراتهم، ثم عدد الله مظاهر النعمة بالرسالة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي القرآن بعد أن كانوا في جاهلية لم يطرق أسماعهم شئ من الوحي، وهذا على القول بأن المراد إظهار المنة بالرسالة على العرب. وعلى القول بأن المراد جنس البشر يبقى المراد هو القرآن. والمنة بآياته من حيث كونها تذكيرا لهم بالله من خلال قرآنه المعجز وَيُزَكِّيهِمْ أي ويطهرهم بالإيمان والإسلام والإحسان، والتربية بالقول والعمل، والقدوة، والحال من كل دنس، وخبث، اعتقادي، أو أخلاقي، أو سلوكي، أو غير ذلك وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي القرآن والسنة وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي:
من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: لفي عمى وجهالة وغي ظاهر جلي بين لا شبهة فيه. وهذا يرجح أن الخطاب والآية يراد به العرب خاصة، لأن من بقايا أهل الكتاب من كان قبل بعثته عليه الصلاة السلام على علم، وعلى هدى، ولكن الخطاب وإن أريد به العرب خاصة هنا، فإنه يدخل فيه غيرهم ممن هو مثل حالهم. ولعل