في محرابه وهو أشرف مكان في داره، وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم، فلم يشعر إلا شخصين قد تسوّرا عليه المحراب، أي احتاطا به يسألانه عن شأنهما) قالُوا الضمير يعود على الخصم، ولذلك جمع مع أنهما كانا اثنين. والظاهر أنهما ملكان في صورة إنسانين لا تَخَفْ خَصْمانِ أي نحن خصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي تعدّى بعضنا على بعض وظلم فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ أي ولا تجر أي لا تتجاوز الحدّ ولا تتخطّى الحقّ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجّته، والمراد عين الحق ومحضه
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ المراد بالأخوّة هنا أخوّة الدنيا، أو أخوّة الصداقة والألفة، أو أخوّة الشركة والخلطة فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي ملّكنيها.
أي اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، أو اجعلها كفلي أي نصيبي وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي وغلبني في الخصومة. أي إنه كان أقدر على الاحتجاج مني
قالَ داود عليه السلام حاكما بينهما لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ قال النسفي:(وإنما ظلم الآخر بعد ما اعترف به خصمه، ولكنّه لم يحك في القرآن لأنّه معلوم). وعقّب على حكمه بقاعدة عظيمة من قواعد التعايش والخلطة فقال:
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الشركاء والأصحاب، والمتخالطين مع بعضهم في بيت أو سجن أو دائرة لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي ليظلم بعضهم بعضا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ فهذا القليل الصالح وحده لا يظلم بعضه بعضا في الخلطة وَظَنَّ داوُدُ أي علم وأيقن أَنَّما فَتَنَّاهُ أي اختبرناه وابتليناه، وأنّه المراد بهذا المثل فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً أي سقط على وجهه ساجدا لله وَأَنابَ أي ورجع إلى الله بالتوبة
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما ظنّ داود أنّه وقع فيه، ومن أجل ذلك اختصم إليه الملكان وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي لقربة وَحُسْنَ مَآبٍ أي مرجع وهو الجنة. قال ابن كثير في قوله تعالى: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ: (أي ما كان منه مما يقال فيه إن حسنات الأبرار سيئات المقربين) وسنرى في الفوائد ما هي القضية التي تنسب لداود عليه السلام وعوتب فيها. وقد فهمنا من الحادثة نموذجا من حكمة داود عليه السلام، ونموذجا من إيتائه فصل الخطاب، ونموذجا من أوبته إلى الله وهي- والله أعلم- المقاصد الرئيسية من عرض الحادثة في هذا السياق.
ثم خاطب الله عزّ وجلّ داود عليه السلام خطابا هو درس لكل من ولّاه الله عزّ وجل شأنا من شئون الأمة يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ