يكون أفصح منها، ولا أبلغ، وهذا شئ مشترك بين كل لفظة وكل آية، إلا أن المفسرين أو المؤلفين في إعجاز القرآن يختارون للتدليل على ذلك ما هو أظهر. وللنسفي وقفة عند قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً يفصح فيه عما قلناه. قال:«ولا ترى كلاما أفصح من هذا، ألا ترى أن أصل الكلام: يا رب قد شخت؛ إذ الشيخوخة تشتمل على ضعف البدن، وشيب الرأس، المتعرض لهما، وأقوى منه، ضعف بدني، وشاب رأسي ففيه مزيد التقرير للتفصيل، وأقوى منه:
وهنت عظام بدني ففيه عدول عن التصريح إلى الكناية، فهي أبلغ منه وأقوى منه: وأنا وهنت عظام بدني. وأقوى منه: إني وهنت عظام بدني. وأقوى منه: إني وهنت العظام من بدني. ففيه سلوك طريقي الإجمال والتفصيل، وأقوى منه: إني وهنت العظام مني. ففيه ترك توسيط البدن. وأقوى منه: إني وهن العظم مني لشمول الوهن العظام فردا فردا، باعتبار ترك جمع العظم إلى الإفراد لصحة حصول وهن المجموع بالبعض دون كل فرد فرد، ولهذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ، وهي الاستعارة فحصل: اشتعل شيب رأسي. وأبلغ منه: اشتعل رأسي شيبا لإسناد الاشتعال إلى مكان الشعر، ومنبته. وهو الرأس لإفادة شمول الرأس؛ إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيبا وزان اشتعل النار في بيتي، واشتعل بيتي نارا، والفرق نيّر ولأن فيه الإجمال والتفصيل كما عرف في طريق التمييز، وأبلغ منه: واشتعل الرأس مني شيبا وأبلغ منه: واشتعل الرأس شيبا ففيه اكتفاء بعلم المخاطب أنّه رأس زكريا بقرينة العطف على وهن العظم).
٤ - [هل كان زكريا يريد بكلمة يَرِثُنِي وراثة المال؟ والرد على هذا الزعم]
ذهب بعضهم إلى أن قول زكريا: يَرِثُنِي إلى أنّ زكريا يريد وراثة المال وقد نفى ابن كثير هذا نفيا باتا. ودلل على أن مراده الوراثة في منصب الدين واستدل على ذلك بثلاثة أدلة:
١ - أن زكريا كان نجارا يأكل من كسب يديه، ومثله لا يجمع مالا، كيف وهو نبي ومثله يكون أزهد الناس في الدنيا.
٢ - إن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم.
٣ - أنه قد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركنا صدقة». وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح «نحن معشر الأنبياء لا نورث». وبعد أن برهن ابن كثير على ذلك ذكر ما استدل به الآخرون ثم قال عن