فبعد أن فر فرعون من الجواب على طلب موسى، وبعد أن من عليه وأنبه على قتله القبطي قالَ موسى فَعَلْتُها إِذاً أي قتلت الرجل إذ ذاك وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي من الجاهلين بأن الفعلة تبلغ القتل، أو من الناسين، أو من الغافلين، أو قبل أن يكرمني الله بهداه ووحيه فأكون نبيا
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ إلى مدين لَمَّا خِفْتُكُمْ أن تقتلوني فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي نبوة وعلما، فزال عني الجهل والضلالة وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي من جملة رسله، وكأنه قال: لقد تغير الحال الأول وجاء أمر آخر، فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت، وإن خالفته عطبت.
[كلمة في السياق]
إذا تأملنا قوله تعالى على لسان موسى فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فإننا نجد فيه نكهة شبيهة بقوله تعالى في سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وإنك لتلاحظ بشكل عام أن نكهة سورة الشعراء تشبه نكهة آية المحور، وذلك عدا عن كون معانيها تدور في فلك آية المحور. وهذا مظهر عظيم من أسرار هذا القرآن، فإنك لا تجد سورة فصلت آية من سورة البقرة إلا رأيت تشابها بين نكهة الآية والسورة. فإن تجد ذلك وأن تجد سورة البقرة ذات نكهة خاصة بها، وروح خاصة بها. فذلك وحده شئ عجيب. وذلك دليل على أن الله منزل هذا القرآن. ولنعد إلى التفسير لنرى تتمة جواب موسى لفرعون:
...
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أن جعلت بني إسرائيل عبيدا أذلاء، رد على امتنانه عليه بالتربية فأبطله من أصله، وأبى أن تسمى هذه نعمة، لأن سببها هو تعبيد بني إسرائيل؛ لأن تعبيدهم وذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ولو تركهم لرباه أبواه، فكأن فرعون امتن على موسى بتعبيد قومه، وإخراجه من حجر أبويه فكيف تسمى هذه نعمة؟ قال ابن كثير في تفسير الآية: أي أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيدا وخدما، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم أي ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم. وبهذا ختم موسى الرد على فرعون، وكان ردا في غاية القوة وفيه درس للمشتغلين بقضايا تحرير أقوامهم من ظالميهم وجلاديهم، ثم إن فرعون فر ثانية من الجواب،