بالغيب الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد سار سياق سورة الروم معمّقا الإيمان بالله واليوم الآخر، حتى وصل إلى الأمر بإقامة الوجه للدين حنيفا، ثم أمر بالصلاة، وها
هي مجموعة أخرى تأتي، وفيها أمر بالإنفاق، ولذلك صلته بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ولكن هذا التفصيل جاء في سياق السّورة الخاص الذي ينصبّ التفصيل فيه انصبابا أوليا على الإيمان باليوم الآخر.
*** تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الأول
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي شدّة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي يعودون إلى ذروة التوحيد: وهو الدّعاء مع الإنابة ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً أي خلاصا من الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ في العبادة
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النّعم فَتَمَتَّعُوا بكفركم وهو أمر وعيد فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال تمتعكم، وبهذا أقام الله الحجة على المشركين من مواقفهم المتناقضة. فتارة موحدون، وتارة مشركون، يشركون في الرّخاء، ويوحّدون في الشدة، إن توحيدهم في الشدة دليل على أنهم مفتقرون إلى الله وحده، وذلك من أعظم الأدلة على وجود الفطرة البشرية، وعلى أنّها موحّدة في الأصل. وبعد أن هددهم على شركهم تابع السياق إقامة الحجة عليهم
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أي حجة فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ قال ابن كثير: وهذا استفهام إنكار، أي لم يكن لهم شئ من ذلك، فكيف يشركون، ولا سلطان لهم من الله على الشرك وهم مفتقرون إلى الله وحده، ولا يدعون غيره في الأزمات، وبعد أن أقام السياق الحجة على فساد الشرك وإبطاله، تابع السياق الحديث عن طبيعة الإنسان التي لا يلائمها إلا التوحيد.
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي نعمة من مطر أو سعة أو صحة أو غير ذلك فَرِحُوا بِها أي بطروا بسببها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي بلاء من جدب أو ضيق أو مرض بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب شؤم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ من الرحمة. وهكذا نجد الطبيعة البشرية في حال نأيها عن الله مريضة في النّعمة والنّقمة.
ومن ثمّ قال الله عزّ وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي ويضيّق. قال النسفي: أنكر عليهم بأنهم قد علموا بأنه القابض الباسط، فما لهم