العظيم. ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة؛ ويفرغ لموحيات الكون، ودلائل الإبداع؛ وتسبح روحه مع روح الوجود؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم.
ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى ...
لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة.
فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع!
وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ ... دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات).
[تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى]
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أي: المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه، أي: تلفف بها، قال ابن كثير: يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل: وهو التغطي في الليل، وينهض إلى القيام لربه عزّ وجل ... وقد كان واجبا عليه وحده ... وهاهنا بين له مقدار ما يقوم
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ أي: من النصف قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي: على النصف، قال ابن كثير: أي: أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قال ابن كثير:
أي: اقرأه على تمهل فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره، قال النسفي: أي: بين وفصل القرآن تبيانا وتفصيلا، أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف، وحفظ الوقوف، وإشباع الحركات
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال ابن كثير: قال الحسن وقتادة: أي: العمل به وقيل: ثقيل وقت نزوله من عظمته، وقال النسفي: (أي: