قدم ابن كثير لتفسير هذه السورة بقوله:(روى الحافظ أبو بكر البزار عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة، فقالوا: سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس عنه، فقالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، فقالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا:
ساحر، قالوا: ليس بساحر، فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتزمل في ثيابه وتدثر فيهما فنزل جبريل عليه السلام فقال:
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قال البزار: معلى بن عبد الرحمن- وهو من رجال سند الحديث- قد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه لكن تفرد بأحاديث لا يتابع عليها). أقول: من هذه الرواية يفهم أن التآمر العنيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أهمه هما أقعده جاءت سورتا المزمل والمدثر لتعالجاه، وهذا معنى مهم ينبغي أن يفطن له، فإذا تذكرنا قوله تعالى في سورة الجن: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ندرك صلة سورتي المزمل والمدثر بما قبلهما من سور مجموعتهما، ومن ثم فإن ما ورد في هاتين السورتين ينبغي أن يعطيه كل من يشتغل بالدعوة إلى الله عزّ وجل مداه التطبيقي.
وقد نقل صاحب الظلال الرواية التي ذكرها ابن كثير، ثم ذكر الرواية الأخرى التي تذكر كسبب نزول، وعلق عليها وهذا كلامه: (وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك- كما سيجئ في عرض سورة المدثر إن شاء الله.
وخلاصتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء- قبل البعثة بثلاث سنوات- أي: يتطهر ويتعبد- وكان تحنثه- عليه الصلاة والسلام- شهرا من كل سنة- وهو شهر رمضان- يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة، ومعه أهله قريبا منه. فيقيم فيه هذا الشهر، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة ...
وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له ليعده لما ينتظره من الأمر