وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ أي وما جعلنا الأنبياء قبله ذوي جسد غير طاعمين، بل كانوا بشرا من البشر، أجسادا يأكلون الطعام، ويشربون مثل الناس، ويدخلون الأسواق للكسب والتجارة، وليس ذلك بضار لهم، ولا ناقص منهم شيئا كما توهمه المشركون وَما كانُوا خالِدِينَ أي في الدنيا، بل كانوا يعيشون ثم يموتون ومحمد صلى الله عليه وسلم واحد منهم، فلم تستغربون أن يكون رسولا؟
وبهاتين الآيتين رد الله عزّ وجل على زعمهم أن الله لا يبعث بشرا رسولا ولما كان قد ذكر في الرد الأول، على موضوع اقتراح الآيات، إهلاكه القرى، عاد السياق هنا ليذكر بعد أن رد كلامهم الأول، إلى تبيان أن هذا الإهلاك كان تصديقا للوعد الذي وعده الرسل وهو قوله تعالى في سورة إبراهيم لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وهؤلاء كانوا ظالمين بقولهم، كما ذكر الله وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ومن ثم فإن الآية الثالثة تقول:
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ أي صدقنا الرسل الْوَعْدَ وهو إهلاك الظالمين وإنجاء الرسل فَأَنْجَيْناهُمْ أي مما حل بقومهم وَمَنْ نَشاءُ أي المؤمنين، فهم الذين يشاء الله إنجاءهم بدليل ما بعده وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ أي المجاوزين الحد بكفرهم، وهم المكذبون بما جاءت به الرسل.
[نقل]
بمناسبة قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ... قال صاحب الظلال: (لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر، فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم. وسلوكهم العملي نموذجا حيا لما يدعون إليه الناس. فالكلمة الحية الواقعية هي التي تؤثر وتهدي، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة. ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام، ولا يمشون في الأسواق، ولا يعاشرون النساء، ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس. فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون.
وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره، فإنه يقف على هامش حياتهم، لا يتجاوب ولا يتجاوبون معه. ومهما سمعوا من قوله فلم يحركهم للعمل بما يقول لما بينه وبينهم من قطيعة في الحس والشعور.