وواضح أن الآيات الأخيرة قد وضعت دستورا للدعوة والدعاة، وقد تحدث صاحب الظلال في أجواء هذا الدستور فقال:
(إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله. لا لشخص الداعي ولا لقومه. فليس للداعي من دعوته إلا أن يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.
والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها. فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة، فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة. ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
وبالجدال بالتي هي أحسن. بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له ولا تقبيح حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة. وسرعان ما يختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها.
والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها. في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر.
ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين. فلا ضرورة للّجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله.
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل