الحادثة بقوله: «هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيرا، ولا تعرف لها البشرية شبيها .. وتشهد- وحدها- بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله، لأن البشر- مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم- لا يمكن أن يرتفعوا- بأنفسهم- إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات؛ إلا بوحي من الله ... هذا المستوى الذي يرسم خطا على الأفق لم تصعد إليه البشرية- إلا في ظل هذا المنهج- ولا تملك الصعود إليه أبدا إلا في ظل هذا المنهج كذلك.
إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة التي تحويها جعبتهم اللئيمة، على الإسلام والمسلمين؛ والتي حكت هذه السورة وسورة البقرة وسورة آل عمران جانبا منها، ومن فعلها في الصف المسلم ..
في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب، ويؤلبون المشركين، ويشجعون المنافقين، ويرسمون لهم الطريق، ويطلقون الإشاعات، ويضللون العقول، ويطعنون في القيادة النبوية، ويشككون في الوحي والرسالة، ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج .. والإسلام ناشئ في المدينة، ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس، ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم، تمثل خطرا حقيقيا على تماسك الصف المسلم وتناسقه. في هذا الوقت الحرج، والخطر، الشديد الخطورة ..
كانت هذه الآيات كلها تتنزل، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الجماعة المسلمة، لتنصف رجلا يهوديا اتهم ظلما بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة. والأنصار يومئذ هم عدة الرسول صلى الله عليه وسلم وجنده، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة ... !.
أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي! ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى؟ وكل كلام، وكل تعليق، وكل تعقيب، يتهاوى دون هذه القمة السامقة، التي لا يبلغها البشر وحدهم. بل لا يعرفها البشر وحدهم. إلا أن يقادوا بمنهج الله، إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء؟! ...
إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة برئ، تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام- وإن كانت تبرئة برئ أمرا هائلا ثقيل الوزن في ميزان الله- إنما كانت أكبر من ذلك.