يتضح لها منهج فريد متفوق على كل ما تعرف البشرية؛ وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية، وحتى يمحص كيانها تمحيصا شديدا؛ وتنفض عنه كل خبيئة من ضعف البشر ومن رواسب الجاهلية، وحتى يقام فيها ميزان العدل- لتحكم بين الناس- مجردا من جميع الاعتبارات الأرضية، والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئا كبيرا لا يقدرون على تجاهله.
واختار الله- سبحانه- هذا الحادث بذاته، في ميقاته .. مع يهودي .. من يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين إذ ذاك في المدينة، التي تؤلب عليهم المشركين، وتؤيد بينهم المنافقين، وترصد كل ما في جعبتها من مكر وتجربة وعلم لهذا الدين! وفي فترة حرجة من حياة المسلمين في المدينة، والعدوات تحيط بهم من كل جانب، ووراء كل هذه العداوات يهود.
اختار الله هذا الحادث في هذا الظرف، ليقول فيه- سبحانه- للجماعة المسلمة ما أراد أن يقول، وليعلمها به ما يريد لها أن تتعلم!.
ومن ثم لم يكن هناك مجال للباقة، ولا للكياسة، ولا للسياسة، ولا للمهارة، في إخفاء ما يحرج، وتغطية ما يسوء. ولم يكن هناك مجال لمصلحة الجماعة المسلمة الظاهرة! ومراعاة الظروف الوقتية المحيطة بها!.
هنا كان الأمر جدا خالصا، لا يحتمل الدهان ولا التمويه! وكان هذا الجد هو أمر هذا المنهج الرباني وأصوله. وأمر هذه الأمة التي تعد لتنهض بهذا المنهج وتنشره. وأمر العدل بين الناس. العدل في هذا المستوى الذي لا يرتفع إليه الناس- بل لا يعرفه الناس- إلا بوحي من الله، وعون من الله.
وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة على السفوح الهابطة- في جميع الأمم على مدار الزمان- فيراها هنالك .. هنالك في السفوح. ويرى من تلك القمة السامقة في السفوح الهابطة صخورا متردية، هنا وهناك، من الدهاء، والمراء، والسياسة، والكياسة، والبراعة، والمهارة، ومصلحة الدولة، ومصلحة الوطن، ومصلحة الجماعة .. إلى آخر الأسماء والعنوانات .. فإذا دقق الإنسان فيها النظر رأى من تحتها .. الدود .. !!.
وينظر الإنسان مرة أخرى فيرى نماذج الأمة المسلمة- وحدها- صاعدة من السفح إلى القمة. تتناثر على مدار التاريخ، وهي تتطلع إلى القمة، التي وجهها إليها المنهج