بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. لقد أقامت الآيتان اللتان هما محور سورة الأنعام من سورة البقرة الحجة على الكافرين من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، وكلاهما مرتبط بظاهرة الخلق، وهاهنا تتحدث الآيات الثلاث عن هذه الظواهر كلها، وفي هذه الآيات الثلاث يقول صاحب الظلال:
«إن هذه الموجة العريضة الشاملة في مطلع السورة، إنّما تخاطب القلب البشري والعقل البشري بدليل «الخلق» ودليل «الحياة» ممثلين في الآفاق وفي الأنفس، ولكنها لا تخاطب بهما الإدراك البشري خطابا جدليا، لاهوتيا أو فلسفيا! ولكن خطابا موحيا موقظا للفطرة، حيث يواجهها بحركة الخلق والإحياء، وحركة التدبير والهيمنة؛ في صورة التقرير لا في صورة الجدل؛ وبسلطان اليقين المستمد من تقرير الله؛ ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير فيما تراه. ووجود السماوات والأرض، وتدبيرهما وفق هذا النظام الواضح؛ ونشأة الحياة- وحياة الإنسان في قمتها- وسيرها في هذا الخط الذي سارت فيه، كلاهما يواجه الفطرة البشرية بالحق، ويوقع فيها اليقين بوحدانية الله، والوحدانية هي القضية التي تستهدفها السورة كلها- القرآن كله- وليست هي قضية (وجود) الله.
فلقد كانت المشكلة دائما في تاريخ البشرية هي مشكلة عدم معرفة الإله الحق، بصفاته الحقة؛ ولم تكن هي مشكلة عدم الإيمان بوجود إله!
... ودليل الخلق ودليل الحياة كما أنهما صالحان لمواجهة المشركين لتقرير الوحدانية، ولتقرير الحاكمية، هما كذلك صالحان لمواجهة اللوثات الجاهلية الحديثة التافهة في إنكار الله. والحقيقة أن هناك شكا كثيرا فيما إذا كان هؤلاء الملحدون يصدقون أنفسهم! فأغلب الظن أنها بدأت مناورة في وجه الكنيسة؛ ثم استغلّها اليهود لرغبتهم في تدمير قاعدة الحياة البشرية الأساسية، كيلا يبقى على وجه الأرض من يقوم على هذه القاعدة غيرهم- كما يقولون في بروتوكولات حكماء صهيون- ومن ثم تنهار البشرية وتقع تحت سيطرتهم، بما أنهم هم وحدهم الذين سيحافظون على مصدر القوة الحقيقة الذي توفره العقيدة!
.... إن وجود هذا الكون الذي ابتدأ بهذا النظام الخاص، يستلزم- بمنطق الفطرة البديهي وبمنطق العقل الواعي على السواء- أن يكون وراءه خالق مدبّر، فالمسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يملك الإدراك البشري أن يعبرها، إلا بتصور إله ينشئ ويخلق ويوجد هذا الوجود .... كذلك نشأة هذه الحياة. والمسافة بينها وبين المادة- أيا كان مدلول المادة