«من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين، أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجّه إليهم الدعوة، في تحوير منهج دعوته عن طبيعة الربانية؛ ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم .. ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق- وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى، منها في هذه السورة وَقالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ! ... وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات. ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ- كَما زَعَمْتَ- عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ! .. وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها!.
والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجة من السورة نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية- أية آية- مما يطلبون. وقيل للرسول صلّى الله عليه وسلّم: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ* إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ .. وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عند ما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها! قيل لهم: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ* وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ .. ليعلموا أولا: أن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية، والدليل على الحق، ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون، وأنهم موتى وأن الله لم يقسم لهم الهدى- وفق سنة الله في الهدى والضلال كما أسلفنا- ثم ليعلموا كذلك: أن هذا الدين يجري وفق سنة لا تتبدل، وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم!
وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني .. إنه ليس خاصا بزمن، ولا