وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .. آماد وآفاق وأغوار في «المنظور»، على استواء وسعة وشمول .. تناسب في عالم الشهود والمشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب.
وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها .. حركة الموت والفناء، وحركة السقوط والانحدار، من علو إلى سفل، ومن حياة إلى اندثار.
وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ .. حركة البزوغ والنّماء. المنبثقة من الغور إلى السطح، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق.
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ .. التعميم الشامل، الذي يشمل الحياة والموت والازدهار والذبول، في كل حي على الإطلاق .. فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال؟ .. من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك، في مثل هذا النص القصير .. من؟ إلا الله!
ثم نقف عند قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ..
نقف لنقول كلمة عن «الغيب» و «مفاتحه» واختصاص الله- سبحانه- «بالعلم» بها .. ذلك أن حقيقة الغيب من «مقومات التصور الإسلامي» الأساسية؛ لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية، ومن قواعد «الإيمان» الرئيسية .. وذلك أن كلمات «الغيب» و «والغيبية» تلاك في هذه الأيام كثيرا- بعد ظهور المذهب المادي- وتوضع في مقابل «العلم» و «العلمية» .. والقرآن الكريم يقرر أن هناك «غيبا» لا يعلم «مفاتحه» إلا الله. ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل .. وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو- سبحانه- من طاقته ومن حاجته، وأن الناس لا يعلمون- فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه- إلا ظنا، وأن الظن لا يغني عن الحق شيئا .. كما يقرر- سبحانه- أن الله قد خلق هذا الكون، وجعل له سننا لا تتبدّل وأنّه علّم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها، ويتعامل معها- في حدود طاقته وحاجته- وأنّه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينا وتأكدا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق .. دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها بحقيقة «الغيب» المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولا، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شئ بقدر غيبي خاص من الله،