بمكة العظيمة أمّ الدنيا جميعها. ثمّ بيّن أنّ من آمن بالله وباليوم الآخر فإنّه يؤمن بهذا القرآن ويقيم الصلاة ويحافظ عليها، ومن ثمّ نعلم أنّه ما من إنسان لا يؤمن بهذا القرآن إلا وهو كافر باليوم الآخر، أو أن إيمانه باليوم الآخر غير صحيح. وإذ تقرّر أنّ من أصل الإيمان بالله ومن أصل معرفته وتعظيمه: الإيمان بما أنزل؛ فإن الله يقرّر بعد ذلك أنّه لا أحد أظلم ممّن كذب على الله فجعل له شركاء أو ولدا، أو ادّعى أنّ الله أرسله إلى النّاس ولم يرسله، وكذلك من ادّعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي بما يفتريه من القول، ثمّ بيّن حال هؤلاء الظالمين إذ هم في سكرات الموت وغمراته وكرباته، والملائكة تضربهم وتعذبهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، قائلين لهم:
اليوم تهانون غاية الإهانة؛ كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتّباع آياته، والانقياد لرسله، ويوم القيامة يقال لهم: كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه فها هو قد جاء، وكل ما أعطيناكم في الحياة الدنيا من النّعم والأموال والجاه وغير ذلك تركتموه وراء ظهوركم، فأين آلهتكم المزعومة التي أشركتموها مع الله في العبادة؟! لقد تقطعت ما بينكم وبينهم من الوشائج والصلات، وذهب عنكم، وضاع ما كنتم تزعمونه من رجاء في الأصنام والأنداد.
وهكذا عرض الله علينا ما يناله هؤلاء الظالمون من تقريع وتوبيخ ساعة موتهم ويوم بعثهم، وما بعد ذلك من العذاب أشد؛ لأنّهم لم يؤمنوا بالله حقّ الإيمان، ولم يعظّموه حقّ التّعظيم، ولم يعرفوه حق المعرفة، بحيث يؤمنون به، وبصفاته التي تقتضي إيمانا باليوم الآخر، وإيمانا بالرّسل، وإيمانا بالوحي، وبعدا عن الكذب عليه أو تكذيب رسله.
وبتقرير هذه المعاني ينتهي المقطع، بعد إذ تقرر فيه أن من مقتضيات الإيمان بالله توحيده وخوفه وحده. وأنّ من منن الله على من وحّده أن يهديه، وأنّ محمدا عليه الصلاة والسلام مظهر من مظاهر استمرار التوحيد والهداية، وأنه لا يزال أهل التوحيد والهداية موجودين، وأن من تعظيم الله وكمال معرفته الإيمان بأنه ينزل وحيا ويرسل رسلا، وأن محمدا عليه الصلاة السلام هو الذي يعظم الله حق التعظيم، ويعرفه حق المعرفة، وأن قرآنه مما أنزل الله، وأن من لم يؤمن بالقرآن، أو ادّعى على الله ما لم يتصف به، أو ادّعى أن الله أنزل عليه ولم ينزل أظلم الخلق، وأن هؤلاء الظالمين سيرون مغبة ظلمهم توبيخ، وتقريع، يوم يموتون، ويوم يبعثون، وهذه المعاني