يتصرف بين الناس على ضوء هذا القرآن، وللكافر الغارق في الظلمات والجهالات والأهواء والضّلالات المتفرقة لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص ممّا هو فيه هل يستوي هذا مع هذا؟ لا يستويان، ومع ذلك فإن الكافر يستحسن ما هو عليه، لأن الله زيّن له ما هو فيه قدرا من الله، وحكمة بالغة منه لا إله إلا هو ولا شريك له، ومن خلال العرض نعرف حكمة أخرى من حكم الإضلال: فقد بيّن الله- عزّ وجل- بعد أن ضرب المثل السابق للمهتدي والضال أنه كما جعل في مكة أكابر من المجرمين، ودعاة إلى الكفر والصدّ عن سبيل الله، وإلى مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعداوته كذلك جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليدعوا إلى الضلالة بزخرف من القول والفعل، وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم، وهم لا يشعرون بذلك، وإذن فإجرامهم هو سبب ضلالهم، هؤلاء المجرمون الكبار إذا جاءتهم آية وبرهان وحجّة قاطعة رفضوا الإيمان حتى تأتيهم الملائكة من الله بالرّسالة كما تأتي إلى الرسل، وإذا فما أقسموا عليه في أول الفقرة من كونهم إذا جاءتهم آية يؤمنون بها محض كذب؛ فإنّ الدوافع الأصلية لكفرهم هو حسدهم أن يبعث الله رسولا غيرهم، وهنا يبيّن الله أنّه هو الأعلم حيث يضع رسالته، ومن يصلح لها من خلقه، ثمّ أوعد الله هؤلاء المجرمين بأنه ستصيبهم يوم القيامة ذلّة دائمة، لقد استكبروا في الدنيا فأعقبهم ذلك ذلا يوم القيامة، ومع الذلة عذاب أليم شديد بسبب مكرهم، ولما كان المكر في الغالب إنما يكون خفيا: وهو التلطف في التّحيّل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة؛ جزاء وفاقا، وبعد إذ تقرّر أنّ الهدى من الله، والضلال من الله، وأن الضلال له أسباب، ذكر الله- عزّ وجل- علامة من يريد هدايته، ومن يريد ضلاله، فأما علامة من يريد هدايته فهو شرح صدره للإسلام بأن ييسّره للإسلام، وينشّطه ويسهّله لذلك، وأمّا علامة من يريد إضلاله فهو جعل صدره ضيقا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخل قلبه؛ حتى إنّه من شدة ضيقه بها ليصل إلى درجة الاختناق كشأن الذي يصعّد في السماء، فإنه يضيق صدره لدرجة الاختناق ثم يختنق، وكما جعل الله صدر من أراد إضلاله ضيّقا حرجا، كذلك يسلط الله الشيطان عليه فيغويه ويصدّه عن سبيل الله، ولما ذكر علامة من يريد إضلاله، بيّن أنّ هذا القرآن وهذا الدّين هو صراط الله المستقيم، وقد وضّح الله فيه الآيات وبيّنها وفسّرها لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهؤلاء قد أعدّ الله لهم دار السلام وهي الجنة يوم القيامة، وإنّما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام إشعارا بأن سلوكهم الصراط المستقيم حقق لهم السلامة، فكما سلموا من آفات