وأيا كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به، ويثبتون عليه. وإنما هو الهوى المتقلب، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم. وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ منحرفين عن دين الله وعهده القديم ..
وهذه ثمرة التقلب .. ونقض العهد، واتباع الهوى ... ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله، مستقيما على طريقته، مسترشدا بهداه، فلا بد أن تتفرق به السبل، ولا بد أن ينحرف، ولا بد أن يفسق .. وكذلك كان أهل تلك القرى. وكذلك انتهى بهم المطاف.».
وتعليقا على هذا التعقيب الذي جاء بعد قصص أقوام عذبوا والذي جاء خاتمة للمقطع الأول من القسم الثاني في السورة، والذي يأتي بين يدي قصة موسى وفرعون، وقصة موسى مع قومه تعليقا على هذا التعقيب يقول صاحب الظلال:
«هذه وقفة في سياق السورة للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب .. وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية- والقرية هي المدينة الكبيرة أو الحاضرة المركزية- وهي سنة واحدة يأخذ الله بها المكذبين، ويتشكل بها تاريخ الإنسان في جانب منه أصيل ..
أن يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء، لعل قلوبهم ترق وتلين وتتجه إلى الله وتعرف ألوهيته وحقيقة عبودية البشر لهذه الألوهية القاهرة. فإذا لم يستجيبوا أخذهم بالنعماء والسراء، وفتح عليهم الأبواب، وتركهم ينمون ويكثرون ويستمتعون ... كل ذلك للابتلاء .. حتى إذا انتهى بهم اليسر والعافية إلى الاستهتار والترخص، وإلى الغفلة وقلة المبالاة، وحسبوا أن الأمور تمضي جزافا بلا قصد ولا غاية، وأن السراء تعقب الضراء من غير حكمة ولا ابتلاء، وأنه إنما أصابهم ما أصاب آباءهم من قبل لأن الأمور تمضي هكذا بلا تدبير: وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أخذهم الله بغتة، وهم سادرون في هذه الغفلة. لم يدركوا حكمة الله في الابتلاء بالضراء والسراء. ولم يتدبروا حكمته في هذه الغفلة في تقلب الأمور بالعباد، ولم يتقوا غضبه على المستهترين الغافلين، وعاشوا كالأنعام بل أضل حتى جاءهم بأس الله .. ولو أنهم آمنوا بالله واتقوه لتبدلت الحال، ولحلت عليهم البركات، ولأفاض الله عليهم من رزقه في السماء والأرض، ولأنعم عليهم نعيمه المبارك الذي تطمئن به الحياة، ولا يعقبه النكال والبوار.