«لقد انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى التي أرسل لها انتهت مرحلة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والهوان والنكال والتعذيب بين فرعون وملئه، وإنقاذهم من أرض الذل والقهر إلى الصحراء الطليقة، في طريقهم إلى الأرض المقدسة .. ولكن القوم لم يكونوا بعد على استعداد لهذه المهمة الكبرى .. مهمة الخلافة في الأرض بدين الله ..
ولقد رأينا كيف اشرأبت نفوسهم إلى الوثنية والشرك بمجرد أن رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم. ولم يمض إلا القليل! فلم يكن بد من رسالة مفصلة لتربية هؤلاء القوم، وإعدادهم لما هم مقبلون عليه من الأمر العظيم ومن أجل هذه الرسالة المفصلة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه ويتلقى عنه. وكانت هذه المواعدة إعدادا لموسى لنفسه، كي يتهيأ في هذه الليالي للموقف الهائل العظيم، ويستعد لتلقيه.
وكانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة، أضيفت إليها عشر، فبلغت عدتها أربعين ليلة، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود، وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليستغرق في هواتف السماء، ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل، وتصفو روحه وتشرق وتستضئ، وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة.
وألقى موسى إلى أخيه هارون قبل مغادرته لقومه واعتزاله واعتكافه- بوصيته تلك:
وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه، ولكن المسلم للمسلم ناصح. والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم، ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل .. وقد تلقى هارون النصيحة لم تثقل على نفسه، فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه، وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار الذين يحسون في النصيحة تنقصا لأقدارهم ... إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده ليظهر أنه كبير!!!
فأما قصة الليالي الثلاثين وإتمامها بالعشر الليالي فقال عنها ابن كثير في التفسير:
«فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة، قال المفسرون. فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين».