للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لم تظهر حكمة مجئ هاتين الآيتين في هذا السياق وفي هذا المكان كما ظهرت في عصرنا. إذ في العصور المتأخرة صاغ أهل الكتاب في زعمهم نظريات النقد الرئيسية الكاذبة لإسلامنا، وكان منها نقد الإسلام من خلال موضوع النسخ، فكان عملهم استمرارا لعمل أسلافهم في زمن النبوة.

فأسلافهم في زمن النبوة نقدوا الإسلام من خلال ما ينسخ من حكم ويوضع من حكم جديد، وأتم هؤلاء النظرية فرفضوا أن يكون الإسلام ناسخا لما قبله؛ بحجة أن دين الله واحد والله واحد، فلماذا ينسخ الله شرعه؟ فكون النسخ موجودا في الشريعة الإسلامية، وكون الشريعة الإسلامية تعتبر نفسها ناسخة لما قبلها؛ فذلك علامة على أن هذه الشريعة ليست من عند الله. ومن أعظم من تولى الرد عليهم في هذا الموضوع وفي غيره رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه «إظهار الحق» الذي لم يؤلف في الإسلام مثله في موضوعه، إذ أقام عليهم الحجة من كلامهم، ومن نصوص ديانتهم التي يعتمدونها في مجموع المسائل التي أثاروها. فبرهن في موضوع النسخ من خلال ما يعتمدونه على أن التوراة نسخت أحكاما كانت قبلها في بني إسرائيل، وأن الإنجيل قد نسخ أحكاما في التوراة، بل إن رسل المسيح- في زعمهم- قد نسخوا أحكاما في الإنجيل، وأن التوراة قد نسخت أحكام فيها بأحكام أخرى.

بعد هذه المقدمة أصبح بإمكاننا أن ندرك محل هاتين الآيتين في سياق الفقرة: خص الله هذه الأمة بالفضل والخير؛ بإنزاله عليها شريعته الأخيرة الناسخة لسواها. والكافرون الذين لا يريدون لهذه الأمة خيرا ينكرون أن تنسخ شريعة لاحقة شريعة سابقة. وبالتالي فإنهم يعتبرون الإسلام باطلا. وهم إذ يزعمون هذا الزعم فكأنهم يعتبرون الله عاجزا، وهم بذلك لا يعرفون إحاطة علم الله، فتأتي الآيتان لترد هذا كله وتبطله. ففي الآيتين تأكيد لفضل الله على هذه الأمة وتوضيح، وهذا يستدعي من هذه الأمة أن تعرف فضل الله عليها، فلا تستجر إلى متابعة أهل الضلال، بل أن تشكر الله على نعمه بالسماع والمتابعة، وبهذا نعرف صلة هاتين الآيتين بسياق الفقرة التي بدايتها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا ولنبدأ عرض الآيتين:

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها طعن اليهود في النسخ فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت هذه الآية. والنسخ لغة: التبديل. وشريعة: بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي فكان تبديلا في حقنا، بيانا محضا في

<<  <  ج: ص:  >  >>