وَبِهِ يَعْدِلُونَ .. فيتجاوزون معرفة الحق والهداية به إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس والحكم به بينهم تحقيقا للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق .. فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس. ولا مجرد وعظ يهدى به ويعرف! إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله. يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه.
ويحكم شعائرهم التعبدية فيجعلها ترجمة عنه في صلة العبد بربه. ويحكم حياتهم الواقعية فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه، ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة، ويحكم عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم فيقيمها كلها على التصورات الصحيحة المستمدة منه. ويحكم مناهج تفكيرهم وعلومهم وثقافاتهم كلها ويضبطها بموازينه ... وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق .. وهذا ما تزاوله تلك الأمة بعد التعريف بالحق والهداية به ..
إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس. صلبة لا تقبل التمييع. والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة .. وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهودا لا تكل وحملات لا تنقطع ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته، كل الوسائل وكل الأجهزة وكل التجارب .. هم يسحقون سحقا وحشيا كل طلائع البعث والحيوية الصلبة الصامدة في كل مكان على وجه الأرض، عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرض، وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويحلون ما حرم الله، ويميعون ما شرعه، ويباركون الفجور والفاحشة، ويرفعون عليها رايات الدين وعناوينه، وهم يزحلقون المخدوعين في الحضارات المادية المأخوذين بنظرياتها وأوضاعها ليحاولوا زحلقة الإسلام في التشبه بهذه النظريات وهذه الأوضاع، ورفع شعاراتها أو الاقتباس من نظرياتها وشرائعها ومناهجها، وهم يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة حادثا تاريخيا مضى ولا يمكن إعادته، ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين ثم ليقولوا لهم- في ظل هذا التخدير- إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة لا شريعة ونظاما، وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي القديم هذا وإلا فإن على هذا الدين أن «يتطور» فيصبح محكوما بواقع البشر يبصم لهم على كل ما يقدمونه له من تصورات وقوانين، وهم يضعون للأوضاع التي يقيمونها في العالم- الذي كان