المحاورة والمفاوضة، ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والمعارضة، ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل ذي أدب، وحيرت بلاغته مصاقع العرب، واحتوى على بدائع أصناف العلوم، ودقائق حقائق المنطوق والمفهوم، وغدا كاشفا عن أسرار الغيب التي لا تنالها الظنون، ومعربا عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين من القرون، ومصدقا بين يديه من الكتب المنزلة، ومهيمنا عليها في أحكامه المجملة والمفصلة، لا يبقى عنده اشتباه، في أنه وحي منزل من عند الله جل جلاله وعمت أفضاله.
٣ - بمناسبة قوله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ذكر ابن كثير أن الرسول الصادق، ومدعي النبوة الكاذب، لا بد أن ينصب الله من الأدلة على بر الصادق، أو فجور الكاذب، ما هو أظهر من الشمس- وقد دلل على فكرته بالكلام عن محمد صلى الله عليه وسلم عليه السلام ومسيلمة الكذاب فقال:(فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب- لمن شاهدهما- أظهر من الفرق بين وقت الضحى، وبين نصف الليل في حندسى الظلماء، فمن سيما كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وكذب مسيلمة الكذاب، وسجاح، والأسود والعنسي. قال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس (أي اليهود) فكنت فيمن انجفل (أي هرب)، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، قال: فكان أول ما سمعته يقول: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» ولما وفد ضمام ابن ثعلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له: من رفع هذه السماء؟ قال:«الله» قال: ومن نصب هذه الجبال؟ قال:
«الله»، وقال ومن سطح هذه الأرض؟ قال:«الله» قال: فبالذي رفع هذه السماء، ونصب هذه الجبال، وسطح هذه الأرض، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال:«اللهم نعم» ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام، ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين، ويحلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: صدقت، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك، ولا أنقص. فاكتفى الرجل بمجرد هذا» وقد أيقن بصدقه- صلوات الله وسلامه عليه- بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه. كما قال حسان بن ثابت:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تأتيك بالخبر
وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوي البصائر علم أمره لا محالة، بأقواله الركيكة التي