عيسى ابن مريم عليه السلام في تلك المدة، فاستعانت اليهود- قبحهم الله- على معاداة عيسى عليه السلام بملوك الرومان، وكانت تحت أحكامهم، ووشوا عندهم، وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا، فبعثوا من يقبض عليه، فرفعه الله إليه، وشبه لهم بعض الحواريين- بمشيئة الله وقدره- فأخذوه فصلبوه واعتقدوا أنه هو وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (النساء: ١٥٧، ١٥٨) ثم بعد المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة دخل قسطنطين- أحد ملوك الرومان- في دين النصرانية وكان فيلسوفا قبل ذلك، فدخل في دين النصارى، قيل: تقية، وقيل:
حيلة؛ ليفسده، فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة، وبدعا أحدثوها، فبنى لهم الكنائس والبيع الكبار والصغار، والصوامع والهياكل والمعابد والقلايات، وانتشر دين النصرانية في ذلك الزمان، واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف ووضع وكذب ومخالفة لدين المسيح، ولم يبق على دين المسيح- على الحقيقة- منهم إلا القليل من الرهبان، فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامة والقفار، واستحوذت يد النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم وبنى هذا الملك المذكور مدينة قسطنطينية، والقمامة، وبيت لحم، وكنائس ببلاد بيت المقدس، ومدن حوران، كبصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة، وعبدوا الصليب من حينئذ، وصلوا إلى الشرق، وصوروا الكنائس، وأحلوا لحم الخنزير، وغير ذلك مما أحدثوه من الفروع في دينهم والأصول، ووضعوا له الأمانة الحقيرة، التي يسمونها الكبيرة، وصنفوا له القوانين، وبسط هذا يطول، والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها منهم الصحابة رضي الله عنهم، وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولله الحمد والمنة).
أقول: ذكر هذا ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ فكأنه يريد أن يبين ما آل إليه أمرهم بعد أن أنعم الله عليهم، وبعض كلامه يحتاج إلى تحقيق، فقد وجدت الانحرافات في النصرانية قبل قسطنطين. فمن المعروف أن بولس الذي عاصر حواريي المسيح عليهم السلام هو الذي حرف وانحرف، وإنما كان دور قسطنطين أنه فرض هذا الانحراف، وأكده وقواه، وأضعف جانب أصحاب الحق الذين كانوا إلى زمنه هم الأكثرية بالنسبة لمجموع النصارى.