أقوى الاتجاهات على الإطلاق عند المفسرين أن يقال الأشقياء نوعان: نوع في قلوبهم إيمان، ونوع ليس في قلوبهم إيمان، فالاستثناء من أجل أن يظهر الله عزّ وجل أن ليس كل شقي يبقى أبدا، بل إن منهم من شاء إخراجه من النار بعد خلود طويل وهم الذين في قلوبهم إيمان.
والسعداء نوعان: سعيد يدخل الجنة ابتداء، وسعيد يتأخر دخوله، إما لكونه من أهل الأعراف، وإما لكونه ينجو بعد عذاب، وهذا النوع خلوده الأبدي قاصر في ابتدائه، فمن ثم ذكر الاستثناء ليبين أن مدة من دوام السموات والأرض ابتداء، لا تكون قسم من السعداء في الجنة.
والاتجاه الثاني: أن يقال ذكر الاستثناء في المقامين ليعلمنا الله عزّ وجل أن هذا الخلود ليس واجبا بذاته، بل هو موكول إلى الله، ليبقى المسلم متذكرا أن مشيئة الله مطلقة، ولولا أن الله عزّ وجل ذكر في مكان آخر الخلود الأبدي لأهل الجنة وللكافرين من أهل النار ما فهمنا الخلود الأبدي، وبذلك يعلمنا الله عزّ وجل أن نذكر مشيئته حتى في القضايا القطعية.
ولي في الاستثناء فهم لم أره لأحد أذكره وأستغفر الله أن أقول على كتابه ما ليس لي به علم، هذا الفهم هو: أن الاستثناء ورد ليخرج التغير الذي يطرأ على السموات والأرض عند قيام الساعة. ليبين أن الدوام في النار والجنة ليس فيه أي طارئ فيكون المعنى فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من أمر القيامة فإنه لا يطرأ عليهم مثل هذا الطارئ بل هو الخلود الأبدي الذي لا يتخلف ولا ينقطع إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ من تعذيب أهل نقمته وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من أمر القيامة فإنه لا يكون مثله لأهل الجنة عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي عطاء غير منقطع، ولتوضيح هذا المقام أقول:
إن هذا الكون حادث لكنه أبدي، يطرأ عليه طارئ القيامة فيتغير يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فإذا ما دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فإنهما يكونان خالدين فيها خلودا يشبه خلود السموات والأرض. وحتى لا يفهم فاهم أن هناك احتمال قيامة ما، بين الله عزّ وجل أن ما شاءه من انقطاع لديمومة السموات والأرض يوم القيامة مستثنى من هذا الدوام.