المعجزات الأخرى ما يدهش ويحير، وإن فيه من الروعة ما لا يحيط به بيان، وقد كتبت في آيات منه رسائل وكتب، إن فيه الكثير مما لو تأمله المنصف فإنه يهتدي إلى الإيمان، وإن من فهمه واستوعب معانيه يدرك كيف أن في سورة النور بينات، وكيف أن هذا القرآن من عند الله، ولقد قدم صاحب الظلال لهذا المقطع بقوله:
(في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري. ليرققه ويطهره، ويرتفع به إلى آفاق النور. عالج عرامة اللحم والدم، وشهوة العين والفرج، ورغبة التجريح والتشهير، ودفعة الغضب والغيظ. وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة، وأن تشيع في القول. عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف.
وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات. وعالجها بالوسائل الواقية: بالاستئذان على البيوت، وغض البصر، وإخفاء الزينة، والنهي عن مثيرات الفتنة، وموقظات الشهوة. ثم بالإحصان، ومنع البغاء، وتحرير الرقيق .. كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم، ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق.
وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ، ومن اضطراب في المقاييس، وقلق في النفوس. فإذا نفس محمد- رسول الله صلى الله عليه وسلم- مطمئنة هادئة.
وإذا نفس عائشة- رضي الله عنها- قريرة راضية. وإذا نفس أبي بكر- رضي الله عنه- سمحة صافية. وإذا نفس صفوان بن المعطل- رضي الله عنه- قانعة بشهادة الله وتبرئته. وإذا نفوس المسلمين آئبة تائبة. وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه.
فثابت إلى ربها، شاكرة فضله ورحمته وهدايته ..
بهذا التعليم. وهذا التهذيب. وهذا التوجيه. عالج الكيان البشري، حتى أشرق بالنور؛ وتطلع إلى الأفق الوضيء؛ واستشرق النور الكبير في آفاق السماوات والأرض، وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل، الغامر في عالم كله إشراق، وكله نور:
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء؛ فيغمر الكون كله، ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح؛ وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر؛ وحتى تعانقه وترشفه العيون والبصائر؛ وحتى تنزاح الحجب، وتشف القلوب، وترف الأرواح.