كتابنا (الله جل جلاله) فلتراجع، وبعد أن قرر الله عزّ وجل هذه القاعدة الكلية وهي أنه الهادي لكل شئ، ضرب مثلا لنوع من هداه وهو هداه الخاص لقلوب عباده المؤمنين مَثَلُ نُورِهِ أي مثل هداه، وإذن فبعد أن قرر أنه نور السموات والأرض بدأ بضرب مثل نعرف منه معنى كونه نور السموات والأرض وهاديهما، هذا المثل يتضمن الكلام عن الهدى في قلب المؤمن، فمن عرف هداية الله لقلوب عباده المؤمنين يدرك كيف أن الله هادي السموات والأرض، وإنما عرفنا ذلك من السياق، ومن القراءات الشاذة الواردة في هذا المقام، إذ القراءات الشاذة إذا كانت صحيحة تعتبر من باب التفسير المأثور للآية كَمِشْكاةٍ المشكاة: هي الكوة- غير النافذة- في الجدار فِيها مِصْباحٌ أي سراج ضخم ثاقب الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي في قنديل من زجاج صاف الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي كأنها كوكب مضيء أي كأنها كوكب من در يُوقَدُ أي هذا المصباح مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة، وهي شجرة الزيتون، وبركتها كثرة منافعها كما قال النسفي زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي هي في مكان وسط تعصرها الشمس من أول النهار إلى آخره، فيجئ زيتها صافيا معتدلا مشرقا يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ من صفائه ونقائه وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي لتلألئه يكاد يضيء من غير نار نُورٌ عَلى نُورٍ أي هذا النور الذي شبه به الحق نور متضاعف، قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوي النور إلا وقد وجدت، وهذا لأن المصباح إذا كان في مكان متضايق- كالمشكاة- كان أجمع لنوره كما نرى ذلك في مصابيح السيارة، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينتشر فيه، والزجاج أعون شيء على زيادة الإنارة كما نرى ذلك في عصرنا في المصابيح الكهربائية، وصفاء الزيت يساعد على صفاء النور وقوته، وبعد أن أنهى الله ضرب المثل على نوع من هداه قال يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي لهداه مَنْ يَشاءُ أي فيوفقه إلى إصابة الحق إما بإلهام من الله أو بنظر في الدليل وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريبا لأفهامهم ليعتبروا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال. والآن وقد عرفنا المعنى الحرفى للكلمات فلنر المراد منها:
أما المشكاة فإنها المؤمن، وأما الزجاجة فإنها قلبه، وأما المصباح فإنه نور قلبه وفطرته، وأما الزيت فهو عمله بالشريعة، وأما الزيتونة فإنها الشريعة لا شرقية ولا غربية، وأما النور فإنه نور الفطرة ونور الشريعة، فإذا اجتمع لإنسان نور الفطرة ونور