ومن ثمّ يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى؛ لبيان حكمة مجئ الرسالة الجديدة، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله، الموافقة لما قبلها من الدعوات، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر .. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة.
فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة. وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عند ما قامت له دولة في المدينة.
وإن بعضهم ليفتري على رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين. فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه. فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم، ولم ينحرف عن دين الله.
وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات.).
وقال الألوسي في الآية نفسها:
(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ من اليهود والنصارى، وقيل: من نصارى نجران إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالخصلة التي هي أحسن كمقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والمشاغبة بالنصح، والسورة بالأناة كما قال سبحانه:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.* إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالإفراط في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الذين ظلموا هم الذين أثبتوا الولد والشريك، أو قالوا يد الله تعالى مغلولة، أو الله سبحانه فقير، أو آذوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وهذه الغلظة التي تفهم الآية الإذن بها لا تصل إلى القتال لأولئك الظالمين من أهل الكتاب على أي وجه من الوجوه المذكورة كان ظلمهم؛ لأن ظاهر كون السورة مكية أن هذه الآية مكية، والقتال في المشهور لم يشرع بمكة، وليست الغلظة محصورة فيه كما لا يخفى، وقيل المعنى: ولا تجادلوا الداخلين في الذمة المؤدّين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فإن أولئك مجادلتهم بالسيف. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد ما يقرب منه، وتعقب بأن السورة
مكية والحرب والجزية مما شرع بالمدينة، وكون الآية بيانا لحكم آت بعد بعيد، وأيضا