ونحن اليوم ندرك من حقيقة جعل الأرض مهدا لهذا الجنس- يجد فيها سبله للحياة- أن هذا الكوكب مر في أطوار بعد أطوار، حتى صار مهدا لبني الإنسان. وفي خلال هذه الأطوار تغير سطحه من صخر يابس صلد إلى تربة صالحة للزرع، وتكوّن على سطحه الماء من اتحاد الإيدروجين والأكسوجين، واتأد في دورانه حول نفسه
فصار يومه بحيث يسمح باعتدال حرارته وصلاحيتها للحياة، وصارت سرعته بحيث يسمح باستقرار الأشياء والأحياء على سطحه، وعدم تناثرها وتطايرها في الفضاء.
ونعرف من هذه الحقيقة كذلك أن الله أودع هذا الكوكب من الخصائص خاصية الجاذبية، فاحتفظ عن طريقها بطبقة من الهواء تسمح بالحياة، ولو أفلت الهواء المحيط بهذا الكوكب من جاذبيته ما أمكن أن تقوم الحياة على سطحه، كما لم تقم على سطح الكواكب الأخرى التي تضاءلت جاذبيتها، فأفلت هواؤها كالقمر مثلا. وهذه الجاذبية ذاتها قد جعلها الخالق متعادلة مع عوامل الدفع الناشئ من حركة الأرض، فأمكن أن تحفظ الأشياء والأحياء من التطاير والتناثر، وفي الوقت ذاته تسمح بحركة الإنسان والأحياء على سطح الأرض، ولو زادت الجاذبية عن القدر المناسب للصقت الأشياء والأحياء بالأرض وتعذرت حركتها، أو تعسرت من ناحية، ولزاد ضغط الهواء عليها من ناحية أخرى فألصقها بالأرض إلصاقا، أو سحقها كما نسحق نحن الذباب والبعوض أحيانا بضربة تركز الضغط عليها دون أن تمسها أيدينا، ولو خف هذا الضغط عما هو عليه لا نفجر الصدر والشرايين انفجارا.
ونعرف كذلك من حقيقة جعل الأرض مهدا وتذليل السبل فيها للحياة، أن الخالق العزيز العليم قدّر فيها موافقات شتى تسمح مجتمعة بوجود هذا الإنسان وتيسير الحياة له، ولو اختلت إحدى هذه الموافقات لتعذّرت هذه الحياة أو تعسّرت، فمنها هذه الموافقات التي ذكرنا، ومنها أنّه جعل كتلة الماء الضخمة التي تكونت على سطح الأرض من المحيطات والبحار كافية لامتصاص الغازات السامّة التي تنشأ من التفاعلات الكثيرة التي تتمّ على سطحها، والاحتفاظ بجوها دائما في حالة تسمح للأحياء بالحياة، ومنها أنّه جعل من النبات أداة للموازنة بين الأكسجين الذي يستنشقه الأحياء ليعيشوا به، والأكسجين الذي يزفره النبات في أثناء عمليات التمثيل التي يقوم بها؛ ولولا هذه الموازنة لاختنق الأحياء بعد فترة من الزمان) أهـ.