والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور، وجميع البيئات، وجميع المجتمعات .. هي:
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ..
ليسخّر بعضكم بعضا .. ودولاب الحياة حين يدور يسخّر بعض الناس لبعض حتما.
وليس التسخير هو الاستعلاء .. استعلاء طبقة على طبقة، أو استعلاء فرد على فرد ..
كلا! إن هذا معنى قريب ساذج، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد. كلا! إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية، وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجئ .. إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض. ودولاب الحياة يدور بالجميع، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف. المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق. والعكس كذلك صحيح. فهذا مسخّر ليجمع المال، فيأكل منه ويرتزق ذاك. وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء. والتفاوت في الرزق هو الذي سخر هذا لذاك، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة .. العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل. والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل.
وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء .. وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات، والتفاوت في الأعمال والأرزاق ..
وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية. وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضا سخريا!.
وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه! إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود، الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع.
وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد، والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل، والتفاوت في مدى إتقان هذا العمل. وهذا