قال عزّ وجل إخبارا عن يعقوب أنه قال يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» وقال الأوزاعي: التجسس البحث عن الشئ. والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يتسمّع على أبوابهم. والتدابر: الصرم رواه ابن أبي حاتم عنه).
قال صاحب الظلال عند قوله تعالى وَلا تَجَسَّسُوا .. (والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات، والاطلاع على السوءات. والقرآن يقاوم هذا العمل الدنئ من الناحية الأخلاقية، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوءاتهم. وتمشيا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب. ولكن الأمر أبعد من هذا أثرا. فهو مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية. إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال. ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم. ولا يوجد مبرر- مهما يكن- لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات. حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس. فالناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم. وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم. وليس لأحد أن يظن أو يتوقع- أو حتى يعرف- أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما، فيتجسس عليهم ليضبطهم! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة. قال سفيان الثوري عن راشد بن سعد عن معاوية بن أبي سفيان، قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» فقال أبو الدرداء- رضي الله عنه-: كلمة سمعها معاوية- رضي الله عنه- من رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- نفعه الله تعالى بها. فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب، بل صار سياجا حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم، فلا تمس من قريب أو بعيد، تحت أي ذريعة أو ستار. فأين هذا المدى البعيد؟ وأين هذا الأفق السامق؟ وأين ما يتعاجب به أشد الأمم