يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا- حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل؛ لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن بذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين. فأول شئ نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية- آدم- على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي. والرسمي يستلزمهما من غير عكس فلهذا قال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ
وفي الأثر:«قيدوا العلم بالكتابة» وفيه أيضا: «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم»).
قال صاحب الظلال معلقا على حادثة ابتداء الوحي: (وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير، ثم مررنا به وتركناه، أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه!.
إنه حادث ضخم. ضخم جدا. ضخم إلى غير حد. ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا.
إنه حادث ضخم بحقيقته، وضخم بدلالته. وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا.
وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد- بغير مبالغة- هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل. ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟.
حقيقته أن الله جل جلاله، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم- في عليائه- فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه: الأرض. وكرم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده- سبحانه- بهذه الخليقة.