تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله تعالى أعداء الله، فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله، فقال صلى الله عليه وسلم- وكان يحب الفأل لصاحب السيف: شم سيفك فإني أرى السيوف تسل اليوم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه، وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأي صدرا خارجا قال: تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، وكانوا خمسين رجلا وقال:
انضح الخيل عنا بالنبل، ولا يأتونا من خلفنا، إن كان علينا أو لنا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، فيهم مائتا فرس قد جنبوها، ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة- ثلاث من الهجرة- وكان ما كان».
٥ - بمناسبة قوله تعالى وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ يقول صاحب الظلال:
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير .. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات. تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب .. وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها. وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير!.
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله- سبحانه- بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية.
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة، والشجاعة، والتجرد، والخلاص من الشح، والحرص .. ثم إذا هو يكشف- على ضوء التجربة العملية وفي مواجهة الأحداث الواقعية- أن في نفسه عقابيل لم تمحص. وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط!