في بداية المقطع بيّن أنه لا يحب المعتدين، وهاهنا بيّن أنه يحب المحسنين، وهذا يؤكد فهمنا أنّ المقطع فيه تحرير وبناء، وتخلية وتحلية، وكذلك السورة كلها.
ثمّ بين الله- عزّ وجل- هنا- بعد أن بيّن في أوّل السورة حرمة الصيد على المحرم أنّ الله- عزّ وجل- قد يبتلينا في حالة إحرامنا بضعيف الصيد وصغيره حتى لو شئنا أن نناله بأيدينا لنلناه، وقد يبتلينا بالكبار منه حتى لو شئنا أن نناله بأسلحتنا لنلناه، وذلك كله اختبار لنا لتظهر طاعة من يطيع منّا في سرّه وجهره فيما نهانا عنه وحرّمه علينا. إنّه قد يختبرنا بالصّيد يغشانا في رحالنا نتمكن من أخذه بالأيدي والسّلاح في حالة إحرامنا، ليظهر من يخاف الله بالغيب ممّن لا يخافه، ثمّ بين تعالى أنّ من يعتدي بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدّم فإنّ له عذابا أليما لمخالفته أمر الله وشرعه، ثمّ نهى الله- عزّ وجل- عن قتل الصيد في حال الإحرام، وهذا تحريم منه تعالى للصيد في تلك الحالة ونهي عن تعاطيه، وما يدخل في هذا وما يستثنى منه سنراه، ثمّ بيّن تعالى أنّ من أصاب صيدا عمدا أو خطأ فعليه الجزاء، مع ملاحظة أنّ المتعمّد مأثوم، والمخطئ غير ملوم. وأن هذا الجزاء ينبغي أن يكون من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، وهل تصح القيمة أو لا تصح؟ قولان للفقهاء، وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة كما رواه البيهقي.
وتفصيل هذا سنراه. هذا الجزء يجب أن يكون الحكم فيه في المثلي، أو بالقيمة في غير المثلي، لرجلين عدلين من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل هل يجوز أن يكون أحد الحكمين أولا؟ على قولين سنراهما، هذا الجزاء يجب أن يصل إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك، ويوزّع لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة، وإذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم، أو لم يكن الصيد من ذوات الأمثال فإنه يقوّم مثله من النعم لو كان موجودا، ثم يشترى به طعام فيتصدق به لكل مسكين مدّ على رأي، ومدّان على رأي آخر، فإن لم يجد صام عن إطعام كل مسكين يوما، وبعضهم قال: هو في الأصل مخيّر بين الجزاء والإطعام، فإن لم يجد فالصيام. واختلفوا هل لا يجوز الإطعام إلا في الحرم على قولين، وتفصيل ذلك كله سيأتي، وإنما فرض الله الجزاء والكفّارة تأديبا، ثمّ بين الله- عزّ وجل- أنّ هذا الحكم لا يطالب به أحد قبل نزوله، فإنّ ما كان من قبل ذلك فهو عفو، ثمّ هدّد الله من يجترئ على الصيد وهو محرم بحيث يتكرر منه الاجتراء بالانتقام منه، فالله- عزّ وجل- عزيز منتقم بمعنى: أنّه منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام