يقول صاحب الظلال: «إن المعرفة الغيبية في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة .. فالغيب وما وراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية. وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به. فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه فإنه لا يصل إلى شئ أبدا، لأنه ليس مزودا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها .. فهو جهد ضائع. فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل، يؤدي إلى الضلال البعيد. وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام .. وهذا هو منهج الإسلام ..
ففي طوال العهد المكي لم يتنزّل حكم شرعي تنفيذي- وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال- ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير والكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام.
ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه، فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل، وفي حدود القضية المعروضة دون تفصيص للنصوص، ليكون للسؤال والفتوى جديّتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني:
كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يلعن من سأل عما لم يكن .. ذكره الدارمي في مسنده .. وذكر عن الزهري قال: بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدث فيه بالذي يعلم. وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون. وأسند عن عمار بن ياسر- وقد سئل عن مسألة- فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا. قال: دعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناها لكم. وقال الدارمي: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن فضيل عن عطاء، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهنّ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ .. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ..
وشبهه .. ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. وقال مالك: أدركت هذا البلد (يعني المدينة) وما عندهم علم غير الكتاب والسنة. فإذا نزلت نازلة، جمع الأمير من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه. وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله!