للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعرضون عنها، فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها. وكمثال على ذلك تكذيبهم بالقرآن الذي هو أعظم آية وأكبرها إعجازا، ثمّ هدّدهم وتوعّدهم وعيدا شديدا على تكذيبهم بالحق، بأنه لا بدّ أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب، وليجدنّ غبّه وليذوقنّ وباله، ثم قال تعالى واعظا ومحذّرا لهم أن يصيبهم من العذاب والنّكال الدنيوي ما حلّ بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة، الذين كانوا أشدّ منهم قوّة وأكثر جمعا، وأكثر أموالا وأولادا، واستعلاء في الأرض وعمارة لها، أعطاهم من الأموال والأولاد والأعمال والجاه العريض، والسّعة والجنود، وأكثر عليهم من أمطار السماء، وينابيع الأرض، استدراجا وإملاء لهم، ثم أهلكهم بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترحوها، وأنشأ من بعدهم جيلا آخر ليختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم فأهلكوا كإهلاكهم.

إنّ الإنسان لو تأمّل هذا الموضوع، فتأمّل فعل الله في الأمم السالفة فإنّه يتّعظ ويؤمن، ويترك الكبر والكفر، ويعمل لله، ويعمل لآخرته، ويوقن أنّه كان واجب السابقين الشكر ولم يشكروا، وأنّ واجب اللاحقين الشكر فليشكروا، والمتأمل يرى كيف أن المقطع يسير على نسق المحور العام لسورة الأنعام في مناقشة الكافرين، بالتدليل على قدرة الله، واستخراج شكره، والتهييج على معرفته، وتقرير الرجوع إليه. ثمّ يستمرّ المقطع بالإخبار عن المشركين، وعنادهم ومكابرتهم للحق، ومباهتتهم ومنازعتهم فيه، حتى لو أنزل عليهم كتاب من السماء فعاينوه ورأوا إنزاله، وباشروا ذلك لقالوا: إنّ هذا سحر واضح، فالعلّة في كفر الكافرين إذن هي مرضهم لا قلّة الآيات ولا انعدامها، فالآيات موجودة وكثيرة، ولكن طبيعتهم الجاحدة هي التي تستكبر عن الرؤية والإيمان، وكأثر عن هذه الطبيعة الكافرة الجاحدة اقتراحهم الاقتراحات من أجل الإيمان- في زعمهم- وهم كذبة، ومن اقتراحاتهم ما قصّه الله علينا في هذا السياق أنّهم اقترحوا أن ينزل عليهم ملك من السماء ليكون مع رسول الله نذيرا. وقد ردّ الله عليهم أنّه لو نزّل الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب، فتلك سنّة الله، ثمّ بين لهم أنّه حتى لو أنزل مع الرسول البشري ملكا، أي: لو بعث إلى البشر رسولا ملكيا لكان على هيئة الرجل لتمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ منه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبّسون على أنفسهم في قبول رسالة الرّسول البشريّ، فلو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل؛ لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة من النّور، وفي هذه الحالة يبقى الالتباس، والخلاصة أنهم اقترحوا نزول الملك وذلك يخالف السّنن؛ لأن الملك من عالم الغيب، وقد أمروا أن يؤمنوا بالغيب؛ ممتحنين في ذلك، وهم لا يقومون بواجبهم ويقترحون على الله تغيير سننه، ولو أنّه

<<  <  ج: ص:  >  >>