وقدّمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام، وهو في شدة الابتلاء .. فلما أن عاتبهم أبو بكر رضي الله عنه في أمر أبي سفيان، حذره صاحبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون قد أغضب «هؤلاء الأعبد»! فيكون قد أغضب الله- يا الله! فما يملك أي تعليق يبلغ هذا المدى وما نملك اليوم إلا أن نتملاه! - ويذهب أبو بكر رضي الله عنه يترضّى «الأعبد» ليرضى الله: «يا إخوتاه أغضبتكم»؟ فيقولون:«لا يا أخي.
يغفر الله لك»!
أي شئ هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية؟ أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس؟ أي تبديل في القيم والأوضاع، وفي المشاعر والتصورات، في آن؟ والأرض هي الأرض، والبيئة هي البيئة، والناس هم الناس، والاقتصاد هو الاقتصاد .. وكل شئ على ما كان، إلا وحيا نزل من السماء على رجل من البشر، فيه من الله سلطان ..
يخاطب فطرة البشر من وراء الركام، ويحدو للهابطين هنالك عند السفح، فيستجيشهم الحداء- على طول الطريق- إلى القمة السامقة .. فوق .. هنالك عند الإسلام!
ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة؛ وتنحدر مرة أخرى إلى السفح. وتقوم- مرة أخرى- في نيويورك، وواشنطن، وشيكاغو .. وفي جوهانسبرج .. وفي غيرها من أرض «الحضارة!» تلك العصبيات النتنة، عصبيات الجنس واللون، وتقوم هنا وهناك عصبيات «وطنية» و «طبقية» لا تقل نتنا عن تلك العصبيات ..
ويبقى الإسلام هناك على القمة .. حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية ..
يبقى الإسلام هناك- رحمة من الله بالبشرية- لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل، وترفع عينيها عن الحمأة وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء، وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام ..
ونحن لا نملك- في حدود منهجا في هذه الظلال- أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة .. لا نملك أن نقف هنا تلك «الوقفة الطويلة» التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها. لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية؛ وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط، إلى القمة السامقة البعيدة .. ثم تهبط مرة أخرى على عواء «الحضارة المادية» الخاوية من الروح والعقيدة! ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى، بعد أن فشلت جميع التجارب، وجميع المذاهب، وجميع الأوضاع،