البشري في مجاله، ولا يفوته إدراك الحقيقة الواقعية؛ وهي أن هنالك غيبا لا يطلع الله عليه أحدا، إلا من شاء، بالقدر الذي يشاء.
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها «الفرد» فيتجاوز مرتبة «الحيوان»، إلى مرتبة «الإنسان» وهي نقلة بعيدة الأثر في تصوّر الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود؛ وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض. فليس من يعيش في الحيّز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ..
ظاهره وخافيه .. حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول.
... «لقد كان الإيمان بالغيب هو مفترق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم المادة ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان- كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم المادة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس، ويسمون هذا «تقدمية». وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميّزة هي صفة:«الذين يؤمنون بالغيب» .. والحمد لله على نعمائه؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين».
والذين يتحدثون عن «الغيبية» و «العلمية» يتحدثون عن «الحتمية التاريخية» كأن كل المستقبل مستبين، و «العلم» في هذا الزمان يقول: إن هناك «احتمالات» وليست هنالك «حتميات»!
ولقد كان ماركس من المتنبئين «بالحتميات»! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم؟
لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلتر، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر .. فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفا صناعيا .. في روسيا والصين وما إليها .. ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية!