بتبيان أنّ الأحقّ بالأمن هو من يعبد الله الذي يملك الضّرّ والنفع، وأن الأحق بالخوف هو الذي لا يعبده، وأن الذين اجتمع لهم الإيمان والإخلاص والتوحيد هم المستحقون للأمن في الدنيا وفي الآخرة. ثمّ ذكر الله- عزّ وجل- أنّ هذه الحجّة منّة من الله على إبراهيم، وبها تقوم الحجة على قومه، وليس مثل حجّة الله حجّة، وليس مثل علمه علم، ولكن الكفر يرفض الحجّة لا لقصور فيها بل لعمى وصمم عند أهله. ثمّ ذكر الله ما منّ به على إبراهيم من رزقه إسحاق، بعد أن طعن في السن، ومن بعده يعقوب بن إسحاق، وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه، وتركهم، ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوّضه الله عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه، وعلى دينه، كإسحاق ويعقوب، وكلّا منّ عليه بالهداية الكاملة، التي هي النّبوة والرّسالة، مثل ما منّ الله على نوح عليه السلام من قبل بالهداية الكاملة، والذريّة الصالحة الباقية، فكلّ من في الأرض من الخلق ذريّته، وقد جعل الله من ذرية إبراهيم عليه السلام الأنبياء والرّسل الكثيرين: داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس. وكل هؤلاء قد ذكروا في هذا السياق، وذكر معهم لوط كذلك، وليس من ذرية إبراهيم الحسّية بل هو من أبنائه في المعنى، لأنّه قد استجاب لدعوته، وكما منّ الله على هؤلاء بالهداية، فقد منّ على كثير من آبائهم،
وذريّاتهم، وإخوانهم بالهداية والاجتباء؛ وتلك سنة الله يهدي من يشاء ممّن استجاب لدعوته ولم يشرك به معه غيره. وفي هذا السياق ذكر الله أنّ هؤلاء جميعا لو أشركوا لأحبط الله أعمالهم، وفي ذلك تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته، وهكذا يتّضح لنا ما منّ الله به على إبراهيم، من التّوحيد والدّعوة إليه، ورفض الشرك، وإقامة الحجة على أهله، وأن ذلك لم يزل دأب المهتدين من قبله ومن بعده وإن الشرك لا يرافقه إلا حبوط العمل، ثمّ قرّر الله- عزّ وجل- أنّ هؤلاء المذكورين قد آتاهم الله الكتاب والحكم والنّبوة، أنعم عليهم بذلك رحمة للعباد؛ ولطفا منه بالخليقة، فإن يكفر من كفر بالكتاب والحكمة والنّبوة- كأهل مكة وغيرهم من سائر أهل الأرض من عرب وعجم ومجوس وكتابيين-، فقد وكّل الله بها من لا يكفر بها، ولا يجحد منها شيئا، ولا يردّ منها حرفا إلى يوم القيامة، بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها.
ثمّ قرر الله- عزّ وجل- أنّ هؤلاء الذين سبق ذكرهم هم أهل الهدى، فعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقتدي بهم وبهداهم، وهو أمر لأمّته جميعا؛ إذ إنّ أمّته تبع له فيما يشرّعه