وحرّض الملك على قتل الصبي، فحشد له جندا من القادة والفرسان، وخرجوا إلى الكهف الذي قيل لهم إن الصبي مختبئ فيه، فإذا بينه وبينهم سحب لا ينفذ النظر إلى ما وراءها، وإذا بهم مجفلون لا يقدرون على الثبات.
فلما عادوا إلى النمروذ وشرحوا له ما عاينوه قال لهم: لا مقام لنا بهذه الديار! وخرج من بلده إلى أرض بابل فلحق به إبراهيم على جناح جبريل، ولقي هناك أبويه، ثم بدأنا بالدعوة إلى الله: الإله الأحد الذي لا إله غيره، رب السموات، ورب الأرباب ورب النمروذ. وأنذرهم أن يتركوا عبادة الصنم الذي صنعوه على مثال النمروذ. فإن له فما ولكنه لا ينطق، وعينا ولكنه لا يبصر، وأذنا ولكنه لا يسمع، وقدما ولكنه لا يسعى، ولا ينفع نفسه، ولا يغني عن غيره شيئا. وأسرع أبوه إلى الملك يبلغه أن ابنه إبراهيم طوى مسيرة أربعين يوما في أقل من يوم، ثم لحق به إبراهيم إلى قصر الملك فهز عرشه بيديه وصاح به:«أيها الشقي! إنك تنكر الحق، وتنكر الله الحي الصمد.
وتنكر عبده إبراهيم خادم بيته الأمين».
ويخاف النمروذ فيأمر تارح أن يعود بابنه إلى موطنه، ثم تتكاثر الروايات في عشرات من كتب المدارس والتفسيرات حول ما حدث بعد ذلك بين إبراهيم وقومه، وبينه وبين الملأ والملك وكهنة الأرباب، مما تغني هذه الأمثلة عن تفصيله واستقصائه، وبعضه كما تقدم معوّل عليه عند اليهود، وبعضه من قبيل ضرب الأمثال بالنوادر والأعاجيب ..
وليس من المطلوب أن نتتبع هذه القصص والنوادر لأنها تستوعب ألوف الصفحات، ولكننا نأخذ منها ما ينتظم في أغراض هذا الكتاب، ومنها ما يدل على تفكير واضعيه، أو يفيد عند المقابلة بين المصادر، أو يلاحظ فيه الوضع لطرافته الأدبية والفنية، أو يتمم صورة أخرى ناقصة في خبر من الأخبار.
فمما ورد في «مدراش رباه» أن أباه حنق عليه حين كسر الأصنام فخاصمه إلى النمروذ، فسأله النمروذ: إن كنت لا تعبد الصور والمشبهات فلماذا لا تعبد النار؟
قال إبراهيم: أولى من عبادة النار أن أعبد الذي يطفئها.
قال النمروذ: فاعبد الماء إذن؟
قال إبراهيم: بل أولى من عبادة الماء أن أعبد السحاب الذي يحمله.