الرحلة المرسومة .. من ورد وشوك. ومن غال ورخيص، ومن ثمين وزهيد، ومن خير وشر، ومن حسنات وسيئات. ها هي ذي تعود في أصيل اليوم .. فقد انطلقت في مطلعه! .. وها نحن أولا نلمحها من خلال السياق في السورة موقورة الظهور بالأحمال- أيا كانت هذه الأحمال- ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها. تطلع في الطريق، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان، ووقف يرتقب في خشية ووجل .. إن كل فرد قد عاد بحصيلته فردا .. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى: وكل فرد على حدة يلاقي حسابه ويلقى جزاءه .. ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية فوجا فوجا. إلى جنة أو إلى نار. حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين. فقد كانوا هنا لك في هذه الأرض مغتربين: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ..
ومع الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل. معارك الهدى والضلال معارك الرهط الكريم من الرسل والموكب الكريم من المؤمنين، مع الملأ المستكبرين والأتباع المستخفين. ويعرض الصراع المتكرر؛ والمصائر المتشابهة. وتتجلى صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها؛ وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها، وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين. حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير .. وهذه الوقفات تجئ وفق نظام ملحوظ في سياق السورة. فبعد كل مرحلة هامة يبدو وكما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة: كلمة تعقيب للإنذار والتذكير .. ثم يمضي.
إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهابا وإيابا. تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية، ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول .. حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأول .. وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام- وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود- وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام، واضح التميز، مختلف الحدود.
ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين. فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة وبينما تبلغ المشاهد دائما