هي تغير الواقع المادي، وترفع «الإنسان» في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال!
ويذهب التهديد. ويتلاشى الوعيد. ويمضي الإيمان في طريقه. لا يتلفت، ولا يتردد، ولا يحيد.
ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد .. إن روعة الموقف تبلغ ذروتها، وتنتهي إلى غايتها. وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض؛ مع الهدف النفسي للقصة على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني، في تناسق لا يبلغه إلا القرآن.
ولكننا نحن في هذه الظلال ينبغي أن نقف وقفة قصيرة أمام هذا المشهد الباهر الأخاذ .. نقف ابتداء أمام إدراك فرعون وملئه أن إيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون، يمثل خطرا على نظام ملكهم وحكمهم، لتعارض القاعدة التي يقوم عليها هذا الإيمان، مع القاعدة التي يقوم عليها ذلك السلطان، وقد عرضنا لهذا الأمر من قبل ..
ونريد أن نقرر هذه الحقيقة ونؤكدها إنه لا يجتمع في قلب واحد، ولا في بلد واحد، ولا في نظام حكم واحد أن يكون الله رب العالمين، وأن يكون السلطان في حياة الناس لعبد من العبيد يباشره بتشريع من عنده وقوانين .. فهذا دين وذلك دين ..
ونقف بعد ذلك أمام إدراك السحرة. بعد أن أشرق نور الإيمان في قلوبهم، وجعل لهم فرقانا في تصورهم أن المعركة بينهم وبين فرعون وملئه هي معركة العقيدة، وإنه لا ينقم منهم إلا إيمانهم برب العالمين. فهذا الإيمان على هذا النحو يهدد عرش فرعون وملكه وسلطانه، ويهدد مراكز الملأ من قومه وسلطانهم المستمد من سلطان فرعون ..
أو بتعبير آخر مرادف: من ربوبية فرعون، ويهدد القيم التي يقوم عليها المجتمع الوثني كله .. وهذا الإدراك لطبيعة المعركة ضروري لكل من يتصدى للدعوة إلى ربوبية الله وحده. فهو وحده الذي أهل هؤلاء المؤمنين للاستهانة بما يلقونه في سبيله .. إنهم يقدمون على الموت مستهينين ليقينهم بأنهم هم المؤمنون برب العالمين، وأن عدوهم على دين غير دينهم، لأنه بمزاولته للسلطان وتعبيد الناس لأمره ينكر ربوبية رب العالمين ..
فهو إذن من الكافرين .. وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل إلا بمثل هذا اليقين بشقيه: أنهم هم المؤمنون، وأن أعداءهم هم الكافرون، وأنهم إنما يحاربونهم على الدين، ولا ينقمون منهم إلا الدين.