يرخص في الفرار إلا في حالتين: الفرار الذي تقتضيه حيلة القتال، والفرار الذي يلتحق به المسلم بفئته وجيشه، ومما يشجع على الثبات، وترك الفرار أن يعلم الإنسان
أن الله هو الفاعل، وأن من سننه أن ينعم على المؤمنين، وأن من سننه أن يوهن كيد الكافرين. فإذا علم المسلم هذا ثبت في القتال ثقة بالله، وانتظارا لموعوده. وقد عرض الله عزّ وجل هذه المعاني الثلاثة من خلال قصة بدر، إذ بين في آيتين أنه خالق أفعال العباد، وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه، ومن ذلك ما حدث من رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب يوم بدر، وما كان من آثار ذلك، ومن ذلك قتل المشركين يوم بدر، فإنه ليس بحول المسلمين ولا قوتهم قتلوا أعداءهم مع كثرة عددهم، بل هو الله الذي أظفرهم عليهم ليعرف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم، مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته. ثم بشر الله المؤمنين بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، ومصغر أمرهم، وأنهم إلى تبار ودمار، ولزيادة تمتين الثقة عند المسلمين ليثبتوا، خاطب الله الكافرين مبينا لهم أنهم إن يستنصروا الله ويطلبوا قضاءه وحكمه أن يفصل بينهم وبين أعدائهم المؤمنين فقد حكم الله، بأن نصر المؤمنين وهزم الكافرين. ثم بين للكافرين أنهم إن ينتهوا عن الكفر فإن ذلك خير لهم في الدنيا والآخرة، وأنهم إن عادوا إلى كفرهم وضلالتهم، يعود الله عليهم بالخذلان والهزيمة، وعلى المؤمنين بالنصر. وهذا الخطاب من الله للكافرين في هذا المقام بيان للمؤمنين ألا يؤثر في معنوياتهم دعاء الكافرين الله، فإن الله ليس مع الكافرين بل هو خاذلهم، ولو جمعوا من الجموع ما عسى أن يجمعوا؛ فإن من كان الله معه فلا غالب له، والله مع المؤمنين فهم حزبه وأهله.
ثم يأتي التوجيه الثاني في هذا المقطع، وفيه يأمر الله عزّ وجل المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ويزجرهم عن مخالفته، والتشبه بالكافرين المعاندين له، ثم ينهاهم أن يتركوا طاعته، وامتثال أوامره، وترك زواجره، وهم يعلمونها ويسمعونها وتصلهم، ثم نهاهم أن يكونوا كالمنافقين الذين يتظاهرون بالسماع والاستجابة وليسوا كذلك. ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من الناس هم شر الخلق والخليقة؛ لأنهم صم عن سماع الحق، بكم عن فهمه غير عقلاء، فهؤلاء شر البرية لأن كل دابة سواهم مطيعة لله فيما خلقها له، وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا؛ ولذلك عاقبهم الله بصرف قلوبهم وأسماعهم عن